المورفولوجيا الاجتماعيةمصدر المقال
- المقدمة:
لا يمكن الحديث عن الظاهرة الاجتماعية إلا باستحضار طبيعة التجمعات الإنسانية أو البشرية. ومن المعلوم أن شكل هذا التجمع هو الذي يكيف الظاهرة الاجتماعية بنية ودلالة ووظيفة، ويؤثر في ملامحها وقسماتها وصورتها الداخلية والخارجية. ومن ثم، يحيلنا شكل التجمع وبنيته وصورته على ما يسمى بالمورفولوجيا الاجتماعية (Morphologie sociale)، وهو فرع من الفروع الرئيسية لعلم الاجتماع العام (La sociologie Générale). ويدرس هذا الفرع التجمعات البشرية من حيث المكان الجغرافي الذي تحتله، وحجم السكان، وعدد الأفراد، ونسبة النمو الديمغرافي، ورصد طبيعة الكثافة السكانية في مساحة تجمعية ما.
وبتعبير آخر، يهتم الباحث الاجتماعي بعدد السكان، وكيفية توزيعهم، ونسبة الكثافة، وحالة النمو الديمغرافي، ومقدار المواليد والوفيات، ونسبة الشبان مقارنة بنسبة الشيوخ، ونسبة الذكور مقارنة بنسبة النساء. ويساعد هذا كله الباحث الاجتماعي في تفهم القضايا والظواهر الاجتماعية وتفسيرها وتأويلها. فمثلا، يعتبر علماء الاجتماع نسبة الكثافة المتزايدة عاملا من عوامل تقسيم العمل في المجتمعات الرأسمالية والصناعية. كما أن كثيرا من الجرائم والانحرافات وظواهر الشذوذ والتطرف تحدث في المناطق المكتظة بالسكان، ولاسيما المدن التي تختلط فيها الأجناس والأعراق والسلالات والإثنيات المختلفة والمتنوعة، وتتباين فيها مستويات الحياة والعيش والاقتصاد.
إذاً، ما المورفولوجيا الاجتماعية؟ وما مقوماتها؟ وما أهم تصوراتها النظرية والمنهجية؟ هذا ما سوف نتعرف إليه في مباحثنا التالية:
- المبحث الأول: مفهوم المورفولوجيا الاجتماعية:
تتكون كلمة المورفولوجيا الاجتماعية Morphologie sociale من كلمة (Morphe) التي تدل على البنية أو الشكل أو الصيغة أو الصورة أو الهيئة أو الحالة؛ وكلمة (Logie/ Logos) التي تعني علم أو دراسة أو لغة. ومن ثم، تعني كلمة المورفولوجيا العلم الذي يدرس بنية الكائنات الحيةأو شكلها أو صورتها العضوية. ومن هنا، فتعريفها الاصطلاحي هو العلم الذي يدرس شكل الكائنات الحية وتكويناتها وصورها وأشكال أجسادها ومساحتها ونسب أعضائها وبنيتها الداخلية، وهذا كله من أجل التمييز بين السلالات والأجناس والأعراق والشعوب ضمن علم الأنتروبولوجيا.
وقد يقصد بها تلك العناصر الخارجية لمختلف الأشياء المعدنية أومختلف الكائنات البيولوجية أو النباتية أو الحيوانية. أي: مظهرها، وشكلها، وتنظيمها، وترتيبها، وتوزيعها، وموقعها...، بإبراز العناصر المادية ووصفها انطلاقا من مواصفاتها وملامحها وخصائصها وأشكالها الخارجية.
أما المورفولوجيا الاجتماعية، فهو مصطلح يستخدم في الحقل العلمي المادي أو العلوم الطبيعية أكثر مما يستعمل في حقل العلوم الإنسانية. لذا، تم نقله إلى حقل علم الاجتماع، من باب التجاوز ليس إلا، للدلالة على البنية والشكل والصورة الخارجية المادية. ومن هنا، تدرس المورفولوجيا الاجتماعية بنية المجتمع أو شكله أو هيئته أو حالته البنيوية أو الشكلية، كدراسة توزيع السكان فوق الأرض، ووصف الظروف المكانية والجغرافية التي ترتبط بها الساكنة الديمغرافية. وبالتالي، فالمورفولوجيا الاجتماعية هي مجمل الظروف المادية الأساسية التي تنبني عليها الحياة الاجتماعية، وهي التي تتحكم في قيم المجتمع وتصرفاته وأفعاله.
وفي هذا السياق، يمكن الحديث عن نوع الساكنة حسب الجنس والسن، فهناك الذكور و الإناث، والعلاقات بين الجنسين هي التقابل والتكامل. وهناك الأطفال والشبان والشيوخ. وتعبر هذه المستويات العمرية عن المراحل التي يمر بها المجتمع أو التنظيم في مساره البيولوجي والاجتماعي.
ويعد هذا العلم أيضا من أهم فروع علم الاجتماع العام. ويعنى بالبنية المادية والشكلية للمجتمع، كالتركيز على مساحة المجتمع أو الدولة أو الإقليم، وتبيان عدد سكانه، وطرائق توزيعه، ونسبة كثافته الديمغرافية، وطبيعة المجتمع المناخية والإقليمية، وبيئته الجغرافية، وطرق المواصلات، وبنية التجارة...أي: يهتم هذا العلم بدراسة البيئة الجغرافية والبيئة السكانية وأثر ذلك في التنظيم الاجتماعي. وبتعبير آخر، المورفولوجيا الاجتماعية هي دراسة البيئة، والجنس، والسكان، والظواهر الجغرافية.
ومن هنا، فالمورفولوجيا الاجتماعية عند مارسيل موس (Mauss) هي دراسة بناء المجتمع من حيث مظهره المادي الخارجي.أي: من حيث السكان وتكوينهم وتوزيعهم وثقافتهم وحركة تنقلاتهم وهجرتهم الخارجية والداخلية من الريف ومن المدن، وموقع بلادهم وضيقها أو سعتها، وقربها من البحر أو بعدها عنها، وطرق المواصلات التي تربطها بغيرها."[1]
ومن جهة أخرى، يعرف علي عبد الواحد وافي علم الاجتماع المورفولوجي بقوله:" يدرس نظم التكتل الاجتماعي، أي الطرق الي يتجمع بها الأفراد بعضهم مع بعض، كتزايد السكان، والمناهج الاجتماعية التي تنجم عنها ظواهر التكاثف والتخلخل في السكان بالنسبة إلى المساحة التي يسكنونها، والقواعد التي تنظم شؤون الهجرة من القرى إلى المدن، ومن المدن إلى القرى، ومن الدولة إلى خارجها، باعتبار الهجرة من الأمور التي تطرأ على التكتل نفسه فتغير من أوضاعه. والنظم التي يسير عليها المجتمع في إنشاء مواطن التجمع كالقرى والمدن والمساكن والطرق التي يتبعها في أشكالها ومرافقها ووظائفها ومواقعها بالنسبة إلى الجبال والبحار والأنهار والبحيرات...وجميع ما يتصل بهذه الشؤون."[2]
ويعني هذا أن المورفولوجيا الاجتماعية تهتم بالتكتل البشري في مجتمع معين، بدراسة مساحة المكان، وتوزيع السكان، ودراسة النمو الديمغرافي، ونسبة الكثافة السكانية، ودراسة البيئة الجغرافية والمناخية، والتركيز على الهجرة الداخلية والخارجية، والتوقف عند البوادي والمدن والأحياء والمناطق التي يقل فيها السكان أو يكتظون.
كما تدرس المورفولوجيا الاجتماعية البنى البدوية والبنى الحضرية، وكيفية انقسام الإقليم أو الدولة إلى مجموعة من البوادي والمدن الحضرية؛ والكيفية التي تتوزع بها المدن إلى أحياء، وأزقة، وشوارع، وعمران، وساكنة، ومناطق فلاحية وصناعية وتجارية وإدارية وخدماتية. لذا، فالهدف من ذلك كله هو معرفة آثار هذه المورفولوجيا في المجتمع وتنظيماته المتنوعة والمختلفة.
وإذا كانت الفيزيولوجيا الاجتماعية (Physiologie sociale) تعني بدراسة مختلف الأنشطة الاجتماعية والممارسات المجتمعية والعمليات الديناميكية للمجتمع كالعقيدة والأخلاق، فإن المورفولوجيا الاجتماعية تطلق على التركيب الجغرافي وكثافة السكان، وطبيعة المجتمع، وكيانه الاجتماعي، ودراسة الوحدات أو الجماعات التي يتكون منها المجتمع، وعلاقة البيئة بالتنظيم الاجتماعي. كما تهتم بدراسة السكان وتوزيعهم على الأرض، وتحديد نسبة كثافتهم وتجمعاتهم، والخصائص الطبيعية للمجتمع، وعلاقات الترابط بينهم. أي: تدرس المورفولوجيا الاجتماعية تلك الظواهر الجغرافية والديموغرافية التي تتكون منها البنية المادية للمجتمع كمساحة الدولة أو الإقليم، ونسبة عدد السكان، ونسبة كثافته السكانية، وطرق المواصلات، ونمو التبادل التجاري.ومن هنا، تدرس المورفولوجيا الاجتماعية جغرافية البيئة وعلاقتها بالتنظيم الاجتماعي، وتدرس كذلك مختلف الظواهر الجغرافية وأثرها في العمران أو المجتمع، ودراسة السكان من حيث التخلخل والتوزيع على المساحة. ويعني هذا كله أن المورفولوجيا الاجتماعية هي بمثابة البنيات المادية للمجتمع أو هي دراسة الأجزاء والوحدات الطبيعية والجغرافية والديموغرافية ضمن الكل أو ضمن نسق المجتمع.
- المبحث الثاني: مقومات المورفولوجيا الاجتماعية:
تستند المورفولوجيا الاجتماعية إلى مجموعة من الركائز والمقومات الأساسية التي يمكن حصرها فيما يلي:
1- الأرض التي يمتد فوقها السكان عددا وحجما واتساعا. وقد تكون تلك الأرض التي ينتظم فوقها السكان قارات، وبلدانا، ومدنا، وأريافا، ومناطق، وأحياء، وأزقة، وشوارع... ويعني هذا أنه من المستحيل الحديث عن السكان بدون الحديث عن الأرض أو الإقليم أو الرقعة الجغرافية أو مكان الامتداد والتواجد والسيادة؛
2- البنية السكانية من حيث عدد الأفراد، وعدد الزيجات، ونسبة المواليد والوفيات، وكيفية توزيع السكان في الأرض والقارات، وطبيعتهم من حيث الجنس والسن والعرق، ونسبة الكثافة السكانية؛
3- مورفولوجيا المدن واكتظاظها بفعل الهجرة من البوادي نحو الحواضر المتمدنة أو المكتظة؛
4- حركات الهجرة الداخلية والخارجية في علاقة بالنمو الديمغرافي، مثل: دراسة المستوى الثقافي عند المهاجرين، ورصد حركة الهجرة من الأرياف إلى المدن، أو الهجرة من بلد إلى آخر؛
5- دراسة البيئة الجغرافية والمناخية التي يمتد فيها السكان.أي: الاهتمام بالظواهر الجغرافية؛
6- دراسة طرق المواصلات، وطبيعة هذه الطرق، ودورها في التبادل التجاري؛
7- تحديد أنماط السكن والمساكن؛
8- مورفولوجيا البيئة أو المحيط الإيكولوجي
9- مورفولوجيا التكنولوجيا أو التقنية؛
10- مورفولوجيا الحياة الحضرية[3].
وعليه، يمكن الحديث عن أنواع عدة من المورفولوجيا، كالمورفولوجيا السكانية، والمورفولوجيا الجغرافية، والمورفولوجيا البدوية، والمورفولوجيا الحضرية، والمورفولوجيا الدينية، والمورفولوجيا الاقتصادية، والمورفولوجيا السياسية، والمورفولوجيا الاتصالية والإعلامية، والمورفولوجيا الصناعية، والمورفولوجيا التجارية...[4]
- المبحث الثالث: أهمية المورفولوجيا الاجتماعية:
للمورفولوجيا الاجتماعية أهمية كبرى في مجال علم الاجتماع؛ إذ تساعدنا على فهم مجموعة من القضايا والظواهر الاجتماعية المتعلقة بالإقليم أو المساحة أو السكان أو الجنس أو النمو الديمغرافي أو البيئة الجغرافية والمناخية، وتبيان موقع التجمع البشري أو السكاني، وفهم الهجرة الداخلية والخارجية...على أساس أن هذه المعطيات المورفولوجية تسعفنا في تفسير الظواهر المجتمعية وفهمها وتأويلها؛ لأن هذه المعطيات ذات أساس مادي.
علاوة على ذلك، تساعدنا المورفولوجيا الاجتماعية على فهم القرية والمدينة، ورصد مختلف الظواهر الاجتماعية التي تنتشر فيهما بنية ودلالة ووظيفة.
كما تقوم المورفولوجيا الاجتماعية بدور هام في الحياة الاجتماعية، وخاصة في تفسير الظواهر الاجتماعية الأخرى[5]؛ لأن البيئة الجغرافية أو السكانية أو المادية تمارس تأثيرا واضحا في المجتمع، وما يلحق ذلك من تغييرات جزئية أو كلية، مع دراسة مختلف العلاقات المرتبطة بالإنسان في علاقة بمحيطه الاجتماعي.
- المبحث الرابع: التصور النظري:
يمكن الحديث عن مجموعة من التصورات النظرية المتعلقة بالمورفولوجيا الاجتماعية، ويمكن حصرها في التصورات التالية:
- المطلب الأول: ابن خلدون وتأسيس المورفولوجيا الاجتماعية:
لقد سبق ابن خلدون، في كتابه (المقدمة)، إميل دوركايم إلى الاهتمام بالمورفولوجيا الاجتماعية بطريق أو بآخر. فهو المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع والعمران البشري، وقد كان أول من وضع لبنات علم الاجتماع القروي، وعلم الاجتماع الحضري. كما وضع أسس الديمغرافيا والجغرافيا السكانية، وربط أحوال الناس بالمناخ وتغيرات طبيعة الجو، بل كانت له آراء وجيهة في علم الاجتماع السياسي. علاوة على ذلك، فقد ركز ابن خلدون، في الباب الرابع المخصص لنشأة المدن والأمصار ومواطن التجمع الإنساني، على شعبة سماها إميل دوركايم بالمورفولوجيا الاجتماعية (La morphologie sociale) أو علم البنية الاجتماعية "وظن هو وأعضاء مدرسته أنهم أول من عنى بدراسة مسائلها، وأول من فطن إلى خواصها الاجتماعية، وأول من أدخلها في مسائل علم الاجتماع، ولم يدروا أنه قد سبقهم إلى ذلك ابن خلدون بأكثر من خمسة قرون، وأنه قد وقف على هذه الشعبة زهاء بابين كاملين في مقدمته."[6]
وعليه، يعد ابن خلدون المؤسس الفعلي والحقيقي للمورفولوجيا الاجتماعية، وخاصة عدندما تحدث عن المورفولوجيا البدوية والحضرية من جهة أولى، والجغرافيا البشرية والمناخية من جهة ثانية، والساكنة الديموغرافية من جهة ثالثة.
المطلب الثاني: إميل دوركايم ونحت مصطلح المورفولوجيا الاجتماعية:
يعد إميل دوركايم [7] Emile Durkheim أول من استخدم مصطلح المورفولوجيا الاجتماعية في كتابه (قواعد المنهج في علم الاجتماع)، إذ قسم السوسيولوجيا إلى المورفولوجيا الاجتماعية التي تدرس البنيات المادية للمجتمع؛ والفيزيولوجيا الاجتماعية التي تدرس الأنشطة الاجتماعية أو الحياة الاجتماعية نفسها.
والمقصود بمصطلح المورفولوجيا الاجتماعية عند دوركايم هو توزيع الأشخاص والأشياء في المكان أو الفضاء المادي. أي: دراسة المظهر المادي للمجتمع، كالموقع الجغرافي، ونسبة عدد السكان، والكثافة السكانية والمادية، وطرق المواصلات، وخطوط السكك الحديدية، ونمو التبادل التجاري، والتركيز المادي، والبيئة الإنسانية أو الاجتماعية، والهجرة الداخلية من البوادي إلى المدن، أو الهجرة الخارجية من دولة إلى أخرى...أو ما يسمى بتركيب البيئة الاجتماعية الداخلية.
وقد أثبت دوركايم أن الكثافة السكانية أو المادية قد ساهمت في تقسيم العمل.وفي هذا الصدد، يقول الباحث: "ولقد بينا في موضع آخر أن كل زيادة في حجم المجتمع وفي كثافته الديناميكية تؤدي إلى تشعب الحياة الاجتماعية، وذلك لأنها توسع الأفق الذي يستطيع الفرد أن يحيط به بفكره أو يملأه بنشاطه العملي ويفضي كلا هذين العاملين إلى تغيير الشروط الأسساية للحياة الاجتماعية تغييرا كاملا."[8]
ويعني هذا أن المورفولوجيا الاجتماعية عند دوركايم هي الدراسة الشكلية المادية للمجتمعات، بالتركيز على وحدات المجتمع وأجزائه العددية والنوعية، والكيفية التي رتبت بها ووزعت فوق الأرض. لذا، تنصب هذه المورفولوجيا على الأشياء والأشخاص على حد سواء، في ضوء مقاربة كمية تهتم بالعدد، والحجم، والكثافة، والنوع، والامتداد، والحركات، والملامح القابلة للعد والقياس...
ومن هنا، فالمجتمع أو الأسرة أو المؤسسة التربوية أو الدولة أو المقاولة الصناعية لها بنيتها الشكلية المادية التي تتحكم فيها، ولاسيما ما يسمى بالساكنة. ومن هنا، يعد عنصر السكان من أهم المواد البنائية المادية التي تشكل هوية المجتمع أو ما يشبهه.
وعليه، يعد إميل دوركايم أول من نحت مصطلح (المورفولوجيا الاجتماعية) لتمييزه عن مفهوم الفيزيولوجيا الاجتماعية، مع حصره في دراسة البنيات المادية الأساسية للمجتمع.
- المطلب الثالث: جورج زيمل وسوسيولويجا الأشكال:
يعد الألماني جورج زيمل (George Simmel) من أهم الباحثين الاجتماعيين الذين اهتموا بالمورفولوجيا الاجتماعية، و أسسوا سوسيولوجيا الأشكال في أثناء تمييزه بين مضمون الفعل وشكله. ويعني هذا أن الشكل الاجتماعي هو عبارة عن مؤسسة اجتماعية ثابتة، مثل: الكنسية، والمؤسسة، والإدارة، والدولة، والشركة، والمقاولة...ويستلزم كل إطار أو شكل مؤسساتي حياة جماعية مشتركة. ويعني هذا وجود مؤسسات سياسية واقتصادية ودينية. ومن ثم، فالشكل الاجتماعي هو كل إطار مؤسساتي ثابت ومحدد. في حين، يعد المضمون كل ماهو متحرك وغير محدد. فالموضة شكل اجتماعي.في حين، يعد التمايز الاجتماعي، ودينامية الحياة الاجتماعية، والسعي نحو الظهور، والتفاوت الطبقي دلالات تصب كلها في مضمون الفعل (الموضة).
وهكذا، يميز زيمل بين مضمون الفعل المجتمعي (الدوافع التي توجه الفعل البشري) وشكله (الموضة - مثلا -). ويقصد بشكل الفعل ما ينتج عن الأفعال الاجتماعية في أثناء عمليات التفاعل أو التبادل المجتمعي.
وعليه، فثمة أربعة أنماط من الأشكال الاجتماعية عند زيمل[9]:
1- الأشكال المتصفة بالديمومة: العائلة، والدولة، والكنيسة، والمنشآت، والأحزاب السياسية..، وتسمى هذه الأشكال بالمؤسسات.
2- الأشكال التي هي تصميمات مبنية مسبقا، وتتفرع عنها المنظمات التابعة لها: التراتبية، والتنافس، والصراع، والمغامرة، والإقصاء، والميراث، والتقليد...، وتسمى بالأشكال التكوينية.
3- الأشكال التي تكون الإطار العام الذي تحدث ضمنه التنشئة الاجتماعية: السياسة، والاقتصاد، والقانون، والتعليم، والدين...وتسمى بأشكال التوافق.
4- الأشكال العابرة التي تؤسس للطقوس اليومية: العادات، والطعام المشترك، والنزهات المشتركة، والتهذيب، والكياسة...[10]
وللتمثيل، يتوقف زيمل عند شكل اجتماعي مثاله (الموضة) لدراسته.لذا، يعتبرها تعبيرا عن النزعة الليبرالية الفردية، و" دون أن تتوقف مع ذلك عن فضح الفوارق الطبقية، تكشف ربما بشكل أفضل، من أي شكل آخر، جوهر دينامية الاجتماعي.تسمح الموضة في الواقع بالتفرد (الحاجة إلى التميز)، دون الانفصال عن جماعات الانتماء (الحاجة إلى التماسك). فهي شكل للحياة، من بين أشكال أخرى كثيرة؛ يسمح بأن يجتمع في فعل موحد الميل إلى المساواة الاجتماعية، والميل إلى التمايز الفردي. أي: إلى التنوع.
أخيرا تعيش الموضة من هذه المفارقة الخاصة بحداثتها، إنها شكل دائم. في حين، إن سبب وجودها هو التبدل المستمر. ومن دون ثورة مستمرة في الأفكار والأذواق، لن تكون الموضة سوى شكل اجتماعي عابر."[11]
وهكذا، فالأشكال هي منتجات للإنسان وللتفاعلات التي تربطها مع بعضها" فهي تميل أيضا لأن تصبح موضوعات أو أغراضا (Objets) تجد بنفسها قوانين تطورها الخاصة بها.إن عملية التجريد هذه تجعل الأشكال الاجتماعية تعمل بمنطق استقلال ذاتي لدرجة تجعلها غريبة عن الأشخاص الذين أوجدوها.كذلك يشير زيمل إلى أنه، بمجرد ما تنشأ - حتى بمساعدة حساسيتنا الفردية المبالغ فيها- فإن الأغراض القانونية والفنية الاعتيادية...تفلت منا لدرجة أننا لم نعد أبدا أسيادا على التأثيرات التي قد تحرض عليها هذه الأغراض.ومع ذلك، تظل الأشكال الاجتماعية عناصر محايثة لحياتنا اليومية من باب أنها تشارك في إدارة العلاقات بين الأفراد.وهذه هي حال النقود، فهي كأداة ضرورية للتبادل التجاري، تسهل النمو الاقتصادي، لكنها في الوقت ذاته، تسجن الأفراد ضمن علاقات اجتماعية ضعيفة. وفي الواقع، مع تكاثر هذا النمط من التفاعل الاقتصادي، يتقلص الرباط الاجتماعي بشكل متزايد، ليصبح مجرد علاقات شخص/ نقود/ شخص، خاضعة للحساب وللإستراتيجيات.هذا الميل الثابت لتشييء الرباط الاجتماعي يقع في قلب الإستراتيجية الثقافية للحداثة.
لكن إذا ما كان ثمة إستراتيجية، فهذا قبل كل شيء، لأن الناس لا يستطيعون أن يقللوا من الأشكال الاجتماعية. وفي الواقع، إذا نظرنا إلى الفن أو التقنية أو العلم أو الأخلاق. فكل هذه الأشكال عناصر ضرورية لإنتاج ثقافة معينة. فهي تقدم إطارا للروابط الاجتماعية. وتحسن الغنى الفردي والجماعي...وعلى الرغم من أنها تصبح شيئا فشيئا غريبة عنا. فهي الأساس الحميم، ليس فقط لحياتنا الشخصية (إذا فكرنا بدور العائلة)، بل كذلك لكامل الحياة في المجتمع. فمن جهة أولى، إن الأشكال هي الوسيلة الضرورية لتثمين الذاتية. ومن جهة أخرى، يعمل هذا التدريب الخشن على لجم كل تلقائية فعلية لمجتمعنا الفردي. تلكم هي المفارقة المركزية لمجتمعاتنا الحديثة."[12]
وعليه، تبقى سوسيولوجيا الأشكال عند زيمل غامضة ومعقدة وملتبسة، تحتاج إلى توضيح دقيق، وتطبيق إجرائي عملي أكثر بساطة وكفاية ومرونة.
- المطلب الرابع: مارسيل موس ومورفولوجيا السكن والساكنة:
اهتم مارسيل موس (Mauss) بالمورفولوجيا الاجتماعية كما اهتم بها أستاذه إميل دوركايم. وقد اعتبرها أساس السوسيولوجيا، وهي التي تسبغ عليها صفة العلمية والموضوعية، مادامت المورفولوجيا هي عبارة عن بنى شكلية مادية خارجية، تقدم نتائج أكثر علمية ونجاعة؛ لأنها تعتمد على معطيات الكم والعدد والإحصاء والمقاييس البيانية.
وقد اعتبر مارسيل موس المورفولوجيا الاجتماعية فرعا اجتماعيا مستقلا. بيد أن مارسيل مورس يقسم السوسيولوجيا، مثل دوركايم، إلى قسمين: الفيزيولوجيا الاجتماعية والمورفولوجيا الاجتماعية، فالأولى تدرس الأنشطة الاجتماعية، والممارسات والأفعال المجتمعية، والمؤسسات والعواطف والمشاعر الاجتماعية. في حين، تهتم الثانية بالبنى المادية التي تتعلق بتوزيع الساكنة فوق الأرض. وبعد ذلك، يخصص المورفولوجيا الاجتماعية بدراسة الوقائع الاجتماعية المادية، على عكس الفيزيولوجيا الاجتماعية التي تدرس الوقائع والظواهر الأخلاقية والمعنوية.
ومن جهة أخرى، ركز مارسيل موس أبحاثه السوسيولوجية على تغيرات السكن عند الإسكيمو (l'Eskimo) حسب الفصول الموسمية، ضمن رؤية مورفولوجية اجتماعية وصفية دقيقة، أو ضمن رؤية أنتروبولوجية جغرافية شاملة.
وهكذا، فقد لاحظ موس مدى تفرق الإسكيمو في الخيام، بشكل كبير، في فصل الصيف. في حين، يتجمعون داخل منازل واسعة وكبيرة في فصل الصيف.لذلك، درس موس هذين النوعين من التجمعين حسب فصل الشتاء وفصل الصيف. ويعني هذا أن هناك خياما تسكنها عائلات الإسكيمو مقابل منازل طويلة وواسعة جدا تقطنها العائلات في فصل الشتاء. ومن ثم، فقد وصف موس خصائص هذين السكنين: الخيمة الصيفية والمنزل الشتوي الطويل. ولم يتوقف موس عند عملية الوصف فحسب، بل انتقل إلى استجلاء مختلف الأسباب الدافعة، واستجلاء التفسيرات الممكنة التي تشرح طبيعة هذين التجمعين السكنين المختلفين، مع تحديد مختلف النتائج التي لها علاقة بالدين، والقضاء، والقيم.
وفي الأخير، يرى مارسيل موس أن المورفولوجيا الاجتماعية علم يصف البنيات المادية للمجتمع، ويفسرها في ضوء أشكالها الخارجية، بدراسة الأرض، والسكان، والحجم، والكثافة، وطريقة التوزيع، على أساس أنها مجموعة من الأشياء التي تكون الكل المجتمعي[13].
- المطلب الخامس: موريس هالبواك والمورفولوجيا االديموغرافية:
يرى موريس هالبواك (Maurice Halbwachs) أن المورفولوجيا الاجتماعية، بمفهومها الواسع، تتجاوز المفهوم الدوركايمي الضيق إلى المورفولوجيا الدينية والاقتصادية والسياسية. وبالتالي، فالمورفولوجيا الاجتماعية، في مفهومها الحق، هي علم السكان[14]، بما فيه الأرض (القارات والبلدان)، والكثافة السكانية، والهجرة الداخلية والخارجية، والتوزيع حسب السن والجنس،وإحصاء المواليد والزيجات والوفيات، وتطور السكان وتجددهم، وعلاقة السكان بالمؤن.
ويعني هذا أن هالبواك يرى أن المورفولوجيا الاجتماعية هي القاعدة المادية للمجتمع. ومن ثم، تتشكل هذه القاعدة من الأفراد أو السكان.وبعد ذلك، يبين طريقة توزيعهم فوق الأرض، وحجم هذه الساكنة وسعتها وكثافتها وامتدادها، مع رصد جميع الأشياء التي تتحكم في العلاقات الاجتماعية. علاوة على استحضار مختلف الظواهر الجغرافية، والظواهر الديموغرافية، وما يتعلق بالثروات والتقنيات التي تغير المكان لصالح الساكنة.
وفي الأخير، توصل هالبواك إلى نتائج معينة تتعلق بتعارض الثابت والمتغير وتمايزهما[15]. ومن ثم، لم يقتصر اهتمام موريس هالبواك على ماهو مادي ومجتمعي، بل تجاوز ذلك إلى وضع أسس المورفولوجيا البيئية أو الإيكولوجية.
ومن هنا، فالمورفولوجيا الاجتماعية، عند موريس هالبواك، عبارة عن وحدات بنيوية مادية تشكل الحياة المجتمعية الكلية. ومن ثم، تعتمد على المعطيات الفيزيائية المادية (الجغرافيا والهندسة)، والمعطيات الاقتصادية (الإنتاج، والتوزيع، والتبادل، والاستهلاك)، والأنشطة الإنسانية (الأفعال والممارسات الإنسانية). ومن هنا، فالمورفولوجيا الاجتماعية عبارة عن ظواهر مادية يتأسس عليها المجتمع.ومن ثم، فهي توزيع للساكنة فوق الأرض في مناطق، ومدن، وأحياء، إلخ. أي: توزيع جغرافي وديموغرافي أكثر مماهو توزيع حسب الجنس أو السن أو الجماعات الاجتماعية أو المؤسسات. ويعني هذا أن هذه الظواهر المادية حسية ومرئية وملموسة لها آثار واضحة وجلية في المجتمع. لذا، فالمورفولوجيا الاجتماعية عبارة عن ديموغرافيا وجغرافيا بشرية.
- المبحث السادس: التصور المنهجي:
ينطلق الباحث الاجتماعي، في أبحاثه المركزة حول المورفولوجيا الاجتماعية، من مجموعة من الأسئلة والإشكاليات الجوهرية التي يبلورها في فرضية أو فرضيات مختلفة، سواء أكانت كلية أم جزئية. ثم يحدد أهداف البحث وغاياته وأهميته، ويستقري مختلف الدراسات السابقة بمختلف معطياتها ونتائجها الكمية والكيفية. ثم يضع الباحث تصميمه أو خطته النظرية، فيوضح مختلف آليات الوصف والتجريب، بتحديد العينة أو مجتمع الدراسة أو حقل المعرفة، ثم يشير إلى أسلوب الإحصاء والطرائق والتقنيات المعتمدة عليها في التجريب والفحص والاختبار.
ويعني هذا كله أن الباحث ينطلق من عملية الفهم، لينتقل - بعد ذلك - إلى عمليتي التفسير والتأويل، باستخدام مجموعة من الآليات الكمية والكيفية، مثل: آلية الملاحظة العلمية، وآلية المسح الميداني، وآلية التوثيق، وآلية التدوين وجمع البيانات والمعطيات، وآلية التنظيم، وآلية التصنيف، وآلية التأريخ، وآلية المقارنة، وآلية الوصف، وآلية الفهم والتحليل، وآلية الشرح والتفسير، وآلية التأويل، وآلية تفريغ النتائج، وآلية الاستنتاج، وآلية التجريب، وآلية التقنين، وآلية التعميم على الرغم من صعوبتها في العلوم الإنسانية بصفة خاصة.
الخاتمة:
وخلاصة القول، إذا كانت الفيزيولوجيا الاجتماعية تعنى بالحياة الاجتماعية أو الفعل الاجتماعي أو الحياة الاجتماعية نفسها، فإن المورفولوجيا الاجتماعية تهتم بصور الأشياء وأشكالها وبنياتها المادية، أو تهتم بأشكال المجتمعات واختلافها عن بعضها البعض، أو هي دراسة البنى المادية للمجتمع، مثل: الأرض، والسكان، والهجرة، وطرق المواصلات، والبيئة الجغرافية...
وعليه، يمكن الحديث عن المورفولوجيا الاجتماعية، والمورفولوجيا السكانية، والمورفولوجيا التكنولوجية، والمورفولوجيا الإيكولوجية، بل يمكن الحديث أيضا عن مورفولوجيا الفعل الاجتماعي[16]...
ومن ثم، تتخذ المورفولوجيا الاجتماعية مظهرا ماديا أو بيولوجيا أو بيئيا (إيكولوجيا). ويعني هذا أن ثمة أسس تقوم عليها هذه المورفولوجيا وهي: التنظيمات الاجتماعية، والسكان، والتقنية، والبيئة. ومن ثم، لابد من رصد هذه العملية التفاعلية التي تجمع هذه العناصر الأربعة كلها.
واليوم، قد تحولت المورفولوجيا الاجتماعية إلى مجرد مقاربة جغرافية أو مقاربة اجتماعية ديموغرافية ليس إلا[17].
وقد حان الأوان للمورفولوجيا الاجتماعية أن تهتم، مثل: الإيكولوجيا المعاصرة، بتفاعل المنظمات الاجتماعية مع السكان من جهة أولى، والتكنولوجيا من جهة ثانية، وحماية البيئة من جهة ثالثة[18].
[1] أحمد زكي بدوي: معجم مصطلحات الرعاية والتنمية الاجتماعية، دار الكتاب المصري القاهرة، ودار الكتاب اللبناني، بيروت، الطبعة الأولى سنة 1987م، ص:240.
[2] علي عبد الواحد وافي:علم الاجتماع، نهضة مصر، القاهرة، مصر، ص:48.
[3] HAMMAN Philippe : Sociologie urbaine et développement durable, Bruxelles, De Boeck, coll. Ouvertures sociologiques, 2012.
[4] Maurice Halbwachs : Morphologie sociale, Armand Collins, Paris 1938.
[5] إميل دوركايم: قواعد المنهج في علم الاجتماع، ترجمة: محمود قاسم والسيد محمد بدوي، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية، مصر، طبعة 1988م، ص:227.
[6] علي عبد الواحد وافي: علم الاجتماع، نهضة مصر، د.ت، ص:73.
[7] Durkheim [1894] : Les Règles de la méthode sociologique, Paris, puf.1992.
[8] إميل دوركايم: نفسه، ص:232.
[9] J.Freund :Philosophie et sociologie, Cabay,1984.
[10] فليب كابان وفرانسوا دوتريو: علم الاجتماع، ترجمة: إياس حسن، دار الفرقد، دمشق، سورية، الطبعة الأولى 2010م، ص:72-73.
[11] فليب كابان وفرانسوا دوتريو: نفسه، ص:73
[12] فليب كابان وفرانسوا دوتريو: نفسه، ص:73-74.
[13] Mauss M., [1906] : « Essai sur les variations saisonnières des sociétés Eskimos », L’Année sociologique, 9,2002.
[14] Remi Lenoir : Halbwachs: démographie ou morphologie sociale?
Revue européenne des sciences sociales T. 42, No. 129, La sociologie durkheimienne: tradition et actualité (2004), pp. 199-218.
[15] Halbwachs M : Population and Society, Introduction to Social Morphology, traduit et présenté par O. D. Duncan and H. W. Pfautz, Glencoe, Ill., the Free Press, 1960.
[16] Castells M., : The Information Age: Economy, Society and Culture. Vol. I: The Rise of the Network Society, Malden (Mass)/Oxford, Blackwell, 1996, p: 496.
[17] Baechler J : Les Morphologies Sociales, Paris, puf,2005.
[18] Mol A. P. J., Spaargaren G.: «Towards Sociology of Environmental Flows. A New Agenda for Twenty-First-Century Environmental Sociology », 39-82 in Spaargaren G., Mol A. P. J. & Buttel F. H., eds, Governing Environmental Flows. Global Challenges for Social Theory, Cambridge, Mass, mit, 2006.
مرحبا بك في بوابة علم الاجتماع
يسعدنا تلقي تعليقاتكم وسعداء بتواجدكم معنا على البوابة