أخر الاخبار

رهانات تعليم و تعلّم العلوم و الآداب و الفلسفة: - الاختلافات و التقاطعات أو ضد عمى التخصّصانية.

رهانات تعليم و تعلّم العلوم و الآداب و الفلسفة:  - الاختلافات و التقاطعات أو ضد عمى التخصّصانية.

رهانات تعليم و تعلّم العلوم و الآداب و الفلسفة: - الاختلافات و التقاطعات أو ضد عمى التخصّصانية.

ديرار عبد السلام 

مـــدخــل:

     التعليم و التعلّم و التربية في زمننا المعاصر، هي الأفعال البؤرية في حياة المجتمعات المعاصرة و في رسم تقاطيع مستقبلها (بل ومدى إمكانية و لوجها هذا المستقبل من عدمه !)، بكل معاني المستقبل الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية و الثقافية، و الروحية أيضا، لأنها (التعليم و التعلم و التربية) هي سياق بناء و تأهيل الإنسان/المواطن الذي يتوقف عليه مستقبل كل تلك الأبعاد. هي رسالة "المعلم-المربي" إذن التي تنبئ طبيعتها، أو بالأحرى و الأفصح، طبيعة ما تتمكن الشعوب من فرض ما تسمح به السلطة القائمة، لتلك الرسالة أن تكون عليه، أو انتزاع إذعان تلك السلطة لقبول السماح لمؤسسة المدرسة(التي هي جهازها الإيديولوجي الأول)، بتوزيع حد أدنى معقول و مقبول، من الخيرات الرمزية، يضمن للإنسان إنسانيته، أو يضمن انبثاقه مواطنا متملكا لمعارف ضرورية و مهارات أساسية، عقلية و عملية، و بالتالي مخيال عن أسلوب للعيش، إنساني، و قيم و مشاعر إنسانية، ضمن كل يشكل طريقة في التفكير و شكلا متميزا (واعيا) للوجود، لا بالشكل التجزيئي التعسفي الذي يجعل الفعل البيداغوجي، موضوعيا، عنفا رمزيا، باعتباره يهدف إلى فرض تعسف ثقافي، بواسطة سلطان تعسفي، لا يمكنه أن ينتج تأثيره الخاص إلا إذا استمر في علاقة تواصل، و إلا إذا توفرت الشروط الاجتماعية للفرض و الطبع، أي علاقات القوة الغير متضمنة في تعريفه الشكلي، و التي عليه أن يخفي، لكي يقوم بوظائفه بفعالية  أكبر(1). علما  بكون التعسف  الثقافي  ضمن  المنظمة  المدرسية درجات، فالذي في
________________________________________
1- Piere Bordieu et Jean claude Passeron : La reproduction- élémnts pour une théorie du systéme d’enseignement 
- Les editions de minuit - 1970                                 

نظام استبدادي مغلق، ليس هو الذي في نظام ديمقراطي. و بكون استعمال التعسف الثقافي لفرض الخاضع للانتقاء و الإقصاء باعتباره ضروري، لا يستمد هذه الدلالات لا من مبدأ شمولي كوني او معرفي أو روحي، و إنما من علاقات القوة بين الجماعات و الطبقات الاجتماعية(2).حيث يصبح تجزيء المعرفة المقدمة ضمن المدرسة، و الفصل(الهدام) بين أنماطها الثلاثة(العلم و الفلسفة و الآداب أو الفنون)،و الإقناع السري لمدرسي كل منها بمشروعية ذلك الفصل، لا بل و الدفاع عنه في الكثير من الحالات، كلما كانت درجة تعسف السلطان مرتفعة تودي بالمعلمين قبل المتعلمين. و كل هذا جنبا إلى جنب مع تهريب موضوعها و أسئلتها في العديد من الحالات، و اختزال منهاجها و طرق و أدوات أو عتاد تحصيلها لمنتوجاتها. ثم- وهذا ما يهمنا أساسا ضمن هذا العمل-تحجيم رهانات تعليمها و تعلمها و القضم منها، ضمن علاقة "التواصل البيداغوجي" التي تميل إلى إنتاج مشروعية ما تبلغه، مع التركيز على أن ما هو مبلغ، بمجرد ما يتم تبليغه بصفة شرعية، يعتبر جديرا بالتبليغ، بالتعارض مع كل ما لم يبلغ(3).
    فما هي الرهانات الفعلية لتعليم و تعلم العلوم و الآداب و الفلسفة؟ و ما هي الاختلافات بين رهانات تعليم و تعلم كل منها، و التقاطعات بينها؟ 

   I- توضيحــات أســاسيــة:

  قبل الخوض في رهانات تعليم و تعلم العلوم و الآداب و الفلسفة و الاختلافات و التقاطعات بينها، يبدو تحديد ما الذي نقصده - ضمن عملنا-بكل من العلوم، و الفلسفة، والآداب أو الفنون، خطوة منهجية في غاية الأهمية، ما دامت الفلسفة ذاتها (وليس رهاناتها) ليست واحدة موحدة عند المشتغلين بها، فبالأحرى الذين يقدمون على تعلمها،من فرط "اللعب" و التدليس و كثرة "الرماد" المنثور داخل  ميكروكوزمها ...
________________________________________
2- Piere Bordieu et Jean claude Passeron :Op.cit. p :71 .                   
3- Op.cit. p : 27 .                Piere Bordieu et Jean claude Passeron :

و ما دام المعنى المهيمن للعلم، يتحدد خارج العلم، في الدوائر الاقتصادية و الصناعية و التقنو- اقتصادية حين يختزل "العلمي" و الترقيم، و هو يعتبر تسمما معرفيا معمّما بلغة إدغار موران (4)، ويحشر كل ما عدا ذلك - مهما كانت علميته (بالمعنى الذي سنحدده للعلم) - خارج دائرة المعرفة العلمية. أو في الدوائر السياسية، حيث الرهان على حرمان الحشود من القدرة على الربط بين الظواهر و الوقائع حولها، و بالتالي، من القدرة على التفكير في المشاكل الأساسية و الشاملة (5)، و كذا حرمانها مما من شأنه أن يرفع منسوب إحساسها و ينشّط خيالها و مخيالها. أو حتى من أهله، أي العلماء حين يتم خداعهم أو انخداعهم بمعنى مختزل مخلوط للعلم، فينحنون أمام أصحاب الهبات و المنح (6). أو لحسابات أصحاب القرار السياسي، و العاملان لا يختلفان بل يتقاطعان و يتطابقان.
  و أما الآداب أو الفنون، فتقتضي تحديد ما نقصده بها، ربّما بأكثر مما يقتضيه تحديد العلم و الفلسفة، لما يعرفه ميكروكوزمها (في زمننا الحاضر بالخصوص) من ازدحام بالغث و المغشوش و الزائف...و الذي يسيء إلى الأدب أو الفن باعتباره أرقى الأصناف المعرفية، المنذورة (دون غيرها) لرفع منسوب إحساس الحشود، و بالتالي تجويد مهاراتها الذوقية و الجمالية و الاخلاقية و الروحية، و انتشالها بذلك من براثن القبح و الشر و "الدوابّية" بلغة الفارابي.
________________________________________
4- Edgar Morin : La voie - Pour l’avenir de l’humanité - Librairie Arthème Fayard/Pluriel - 2012-p : 397.              
Edgar Morin : Op. cit - p : -5
6- في كتابه البالغ الأهمية"The three cultures" ( و هو يقصد أصناف المعرفة الثلاثية: العلم و الآداب و الفلسفة، و إن يضع لها تسميات خاصة و يصنفها على طريقته)، يكشف Jérôme Kagan عن التفاوت الكبير في قيمة المنح و الهبات التي ترصد لمصلحة المتخصصين في العلوم الطبيعية، مقارنة بمثيلاتها المخصصة لأصحاب العلوم الاجتماعية، و عن كون الباحثين الذين تخيّروا دراسة الفلسفة و الأدب و التاريخ، فإنهم يلاقون عنتا أشد، ذلك أنهم خارج معادلة ملايين الدولارات من منح المانحين التي تقصد غيرهم من زملاء الحرم الجامعي.

   و باختصار، فإن ما نقصده بالعلم، ضمن عملنا، ليس ذلك المعنى الكلاسيكي التخصصي و الضيق، الذي يجعل صفة "العلمي" لا تخص إلا تخصصات محددة بموضوع محدد و معزول بصرامة، و منهج صارم (جامد) هو المشهور بالمنهج التجريبي، بخطواته المحنّطة الصارمة المشهورة (الملاحظة، الفرضية، التجريب، القانون)، إلى جانب الرياضيات بمنهجها الفرض- الاستنباطي الصارم، و مبرهناتها و استدلالاتها و حدسياتُها التي تتصور مطلقة البنيان، في الوقت الذي يتكشف خطأها و لو بعد قرون (الاستدلال الخاطئ لCauchy، و الاستدلال الخاطئ ل Lamé. و الحدسية الخاطئة لFermat، و الأخرى الخاطئة ل Euler...)، و علم المنطق، بمنهجه الفرضي- الاستنباطي أيضا. فالموضوع العلمي، ضمن العمل بمعناه المعاصر، و بعد ثورات علمية متلاحقة في القرن العشرين على الخصوص، بات متشبعا، و غير قابل للتحديد الحاسم بالشكل الذي تصوره به العلم الكلاسيكي،لأن فيه شيء من موضوع أو مواضيع أخرى، يفسد عدم الانتباه إليه، على العلم علميته. و المنهج التجريبي (الكلاسيكي)، جرّده تطور المعرفة العلمية من كل ادعاءاته، لأ الملاحظة باتت غير مباشرة في أدق العلوم التي هي الفيزياء، و التجريب الملموس بات من ماضي العلم أمام التطور المذهل لموضوعه، و لغة الاحتمال و النسبية أخدت مكانة لغة الحتمية، و الاستنباط مكانة الاستقراء، و التسليم بأثر العوامل الثقافية العامة، بدل القول بالموضوعية المطلقة كما يتوهّم العلم بمعناه الكلاسيكي.
   إن العلم الذي نقصده هو بالفعل هو ذلك الصنف المعرفي الذي ليس أبدا من نهج تأملي أو من اعتقاد، كما أنه لا يتميز بنهج استقرائي أيضا، بل استنباطي (7)، و هدف العلماء هو اكتشاف الحقيقة، و النظريات العلمية لها هدف هو اقتراح افتراضات أصيلة  بالنسبة  لبنية  العالـم (8). و  ضمن هذا المعـنى ( للـعـلم )، يعـوض التأكـيـد 
________________________________________
- Karl Popper : La quête inachevée- Paris- Presses Pocket -          -7                 1981- p :49.      
- Karl Popper : Conjectures et réfutations- connaissance du        -8
                   Savoir scientifique - Paris-Fayot- 1958- p :362.           

(la corroboration) التحقق (la vérification). و الهدف هو الاقتراب من معارف صحيحة ما أمكن. و هذه المقاربة للصحيح أو ل "الشيء المحتمل" (Le vérisimilitude) تعوض الحقيقة المطلقة. يتعلق الأمر إذن بتقريب (approximation) للحقيقة.(9). و بلغة جيل دولوز و فليكس غاتاري، فالعلم هو ذلك النمط من التفكير، الذي موضوعه هو الوظائف التي تتمثل كقضايا في أنظمة خطابية معينة، و تدعى عناصر الوظائف بالوظيفية (fonctifs). و المفهوم العلمي يتحدد، ليس بالمفاهيم (كما في الفلسفة)، و إنما بوظائف أو قضايا (10). و بتعبير كلود برنار(رغم تجريبيته الكلاسيكية المفرطة)، فإن جعل التمثيل هندسيا، أي رسم الظواهر و ترتيب الأحداث الحاسمة لتجربة في شكل مجموعات ، هو المهمة الأساسية التي يعبر فيها الفكر العلمي عن نفسه(11).، علما بأن الموقف العلمي، هو الموقف النقدي(12).
   و بتبسيط يخدم رهانات عملنا، نقول أن ما نقصده بالعلم هو ذلك الشكل من أشكال نشاط التفكير الإنساني الذي تفضي محاصيله و طرق اشتغاله، إلى تخليص الإنسان من تفسير الظواهر، كل الظواهر، الطبيعية و غير الطبيعية، أي الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و النفسية...، بالخرافة و بالميتافيزيقا، أو بهما معا، عبر صراع مرير مع "السديم"(le chaos) و الانتصار عليه، بفضل مسطح قاطع يجتازه(13).علما بأن الصراع مع "السديم"(الذي يواجهه الفنان و الفيلسوف كما سنوضح  ذلك لاحقا)، ما هو إلا أداة  في صراع  أعمق  ضد الرأي،  ذلك  أن تعاسة
________________________________________
- Karl Popper : La quête inachevée - op-cit- p : 110. -9
10- جيل دولوز و فيليكس غاتاري : ماهي الفلسفة؟ - ترجمة مطاع صفدي - مركز الإنماء القومي -المركز الثقافي العربي - الطبعة الأولى-1997-ص:129.
Claude Bernard : Principes de médecine expérimentale- 1ère -11-
  Edition- Emile Martinet Editeur- 1972.                 
- Karl Popper : La  quête inachevée- op-cit -p.49. 12 
13- جيل دولوز و فيليكس غاتاري: نفس المرجع-ص:208.  

الإنسان لا تأتي إلا من الرأي(14). و "الرأي" في أمور السياسة و توزيع الخيرات و الثقافة و الاجتماع عموما، قد يكون أشد وطأة و تنكيلا منه في الظواهر الطبيعية، بل إن الثاني هو نتاج الأول ، ما دام المقهور المنخدع بالرأي الذي يقنعه/يخدعه بأن الذي يحكمه، يستمد شرعيته من السماء !، أو أنه يحيا زمن "الحرية- المساواة- الأخوة "! ، رغم أن الذي وقع بالفعل لا يتعدى إلا قليلا، استبدال طبقة عتيقة محتكرة للخيرات و الموارد،بأخرى تتكلم لغة "العقلانية" !، و المحروم "المقهور" من حقه في الخيرات المادية و الرمزية...، لا يمكن تصوّره إلا بتصورات ضبابية حول ظواهر الطبيعة، أسطورية في الحالات القصوى من القهر.

   و استنادا إلى كل ما سبق، فـــــــــغن المقصود بالعلم - ضمن عملنا هو كل العلوم الطبيعية أو التجريبية المعروفة ( الفيزياء، الكيمياء، البيولوجيا ، الجيولوجيا، الهندسة، الفلك...) بالإضافة إلى الرياضيات و علم المنطق، ثم العلوم الإنسانية ( علم التاريخ، علم الاجتماع، علم النفس، علم الجغرافيا، علم اللسانيات، الأنتروبولوجيا، علوم التربية، العلوم المعرفية...)، و لاتهمّنا في شيء كل تلك الإدعاءات "المغرضة في الغالب)، حول ما يسمى ب "ضعف منسوب العلمية" في العلوم الإنسانية، و الذي، و إن كان فيه شيء من الصحة، فهو يُغيّب التاريخ القصير لهذه العلوم بالقياس إلى التجريبية، و الحصار المضروب على أهلها عبر العالم،  كما وضّحنا ذلك سابقا، لأن المقهورين قد يسمح لهم بمعرفة أسرار اشتغال الذرة !! حتّى ! و لكن أن يسمح لهم بمعرفة القواعد الغير مرئية التي "تطقسن" و "تروثن" (Routinistion) حياتهم اليومية و وجودهم الاجتماعية، فهو أمر شديد الاستبعاد. كما يُغيّب الإنجازات الهائلة (خصوصا في العقود الثلاثة الماضية) لهذه العلوم الإنسانية في تطوير أدوات إحصائية و مقاييس ولغة رياضية غاية في الدقة (الحزمات الإحصائية للعلوم الاجتماعية، و المقاييس العديدة في علم النفس...)، علما بأننا غير متحمسين لها، ما دامت الأرقام لا يمكنها قول شيء عن عديد من الظواهر  الإنسانية، ما  دامت  أسئلة
________________________________________
14- جيل دولوز و فيلكس غاتاري: نفس المرجع الذكور سابقا- ص:214.

عديدة لا يمكن مواجهتها بالعلم التجريبي وحده ( و كذلك بالفن و حده أو الفلسفة وحدها)، و هو ما يفسر انبثاق أصوات جريئة اليوم، من داخل العلم التجريبي (كما سنفصل ذلك لاحقا)، تدعو إلى العودة إلى البحث عن استراتيجيات ابستمولوجية جديدة، و التي (الأصوات الجريئة اليوم)جذورها فيما شهده كل النصف الثاني من القرن العشرين، من محطات لتوقف العلم (التجريبي) عن "غروره" مع الانطلاقة الحاسمة لدراسات علم الوراثة حول الجينات، و السلوك الإنساني و الأمراض العقلية و الدماغ و العواطف أو الوجدان (émotions)، حيث وقع الانصدام "من الصدمة" أمام تعقد الظواهر، و العجز (المبين !) عن الإجابة عنها تجريبيا (15). مما دفع مفكرين و علماء إلى التساؤل (الإنكاري) عن مدى قابلية ظواهر من قبيل الذاكرة و السلك و المشاعر و اشتغال المجتمعات و الاقتصاد، و قضايا المناخ و التربية و الصحة و البيئة...للاختزال (للمسخ أقوال) في لغة الرياضات، و بالتالي الدعوة الصريحة إلى إيستيمية مخترقة للتخصصات (16).
     و أما ما نقصده بالآداب أو الفنون، فهو النمط المعرفي الثالث، إلى جانب العلم و الفلسفة، و الذي يتفرّع - ضمن خصوبة و ثراء - إلى الشعر و الرواية و القصة و النحت و التشكيل و المسرح و التأليف الموسيقي...، إلا أنه يبقى في كل تمظهراته صادرا عن قوة إحساس هائلة، لا يملكها إلا الفنان، وهي سرّ كونه فنانا، و مقعّدا معرفيا (لا جاهلا)، مما يضمن رفعه منسوب إحساس من حوله، و يشعل خياله و مخياله، و هو ما لا يمكن أن يأتي به لا العلم، و لا الفلسفة، بل إن الأول، أي العلم متوقف عليه في  ذلك ليتقدم و  يقتحم  آفاقا  جديدة  أو يخترق  جزءا  من السديم  كما 
________________________________________
- Hiwiit , Rachel : Eyes to the blind : Telescopes, theodolites     -15
                And failing vision in William Wordsworth’s landscape      
                Poetry - Journal of science and Literature 5-23- 2007                 -Levine, George : One Culture : science and Literature -in One -16
                Culture, Madison, University of Wisconsin Press 1989

سنفصل ذلك ضمن تحليلنا للتقاطعات بين تعليم و تعلّم العلم و الفلسفة و الفن لاحقا.
  وهنا تبرز أهمية الحذر الشديد أمام الكم الهائل و المريب من السائد و المسوّق و المتوّج و المنجمن أصحابه (اللاتستحيي وجوههم !) (و بأدوات و آليات دعم من خارج الحقل الثقافي...)، باعتباره فنا، و إن هو إلا ترنحات غريزية أو إفرازات (غريزية)، أو فدلكات سوقية، يراد بها شغل الحقل، ليسهل الاغتيال الرمزي للحقيقتين، فحرمان الحشود مما من شأنه رفع منسوب إحساسها و تنشيط خيالها و مخيالها.
   و أما الأديب أو الفنان الذي نقصده ضمن عملنا، فهو مبرز المؤثرات الانفعالية، مخترع المؤثرات الانفعالية، مبدع المؤثرات الانفعالية، في علاقتها بالمؤثرات الإدراكية أو الرؤيات التي يمنحنا إياها. فهو لا يخلقها فقط في أعماله، بل إنه يعطيها إيّانا و يجعلنا نصير معها، و يدرجنا في المركّب...و الفن ]الذي نقصده[ هو لغة الإحساسات، أكانت بكلمات أم بالألوان أم بالأصوات أم بالأحجار... فالفن يفكك التنظيم الثلاثي المؤلف من المدركات و الانفعالات و الآراء، ليستبدله بنصب مركب من المؤثرات الإدراكية و الانفعالية، و تلك الإحساسات التي تقوم مقام اللغة. فالكاتب يستخدم الكلمات، و لكن يخلق صياغة تجعلها تمر في الإحساس، و تجعل اللغة الجارية تتلعثم أو ترتعش، أو تصرخ، أو حتى تغنّي: إنه الأسلوب، النبرة، لغة الإحساسات، أو اللغة الغريبة داخل اللغة، تلك التي تستدعي شعبا [ أو تناديه] للمجيء... . إنه الكاتب يطوّع اللغة و يجعلها تهتزّ، و يضمها و يصدّعها لانتزاع عنصر المدرك من الإدراكات و عنصر الانفعال من الانفعالات، و الحس من الرأي، و ذلك بهدف استدعاء هذا الشعب، الذي لا يزال غائبا بعد، كما نأمل(17).

   هو ذا الأدب أو الفن الذي نقصده ضمن عملنا، مواجهة للسديم، عبر أشكال ل "الهدم"، هدم ما يجعل العيون و الآّذان شهودا سيئة للإنسان، أي بأرواح همجية، بغية 
________________________________________
17- جيل دوليز و فيليكس غاتاري: نفس المرجع - ص:184.

إنتاج إحساس ينمّ عن العبور بها(العيون و الآذان) إلى التي بأرواح إنسانية. و هو ما لا يكفّ الشاعر و الروائي و الرسام و المسرحي و النحّات و الموسيقي... الحقيقيون،
عن مناداته في من حولهم، علما بأن ليس في استطاعة الفنان خلق شعب قطّ، و كل ما في إمكانه، مناداته بكل قواه. فلا يمكن لشعب أن يخلق ذاته إلا تحت وطأة آلام مبرحة. كذلك لا يستطيع الانشغال بالفن إلا في هذه الحالة. غير أن الأعمال الفنية تحتوي بدورها على قدر يصعب تخيله من المعاناة تجعلنا نستشعر مجيء شعب. إنها تشترك في المقاومة، مقاومة الموت و العبودية، و مقاومة ما هو مرفوض كليا. مقاومة العار و الحاضر(18). و كل ّلك عبر تركيب و تأليف فائقين، تركيب جمالي في حدوده القصوى الممكنة في زمن الشاعر أو الروائي أو أي فنان أو أديب، علما بأن ما ليس مركبا ليس عملا فنيا، و بأن التركيب الجمالي هو عمل الإحساس الفادح، و بأن كل ذلك لا يتحقق إلا ناذرا لقلة قليلة، و هو ما يجعلها تخلد، و تخترق اللغات و الثقافات و الأزمنة، غذاء للأرواح و تهذيبا لها و سموا بها باتجاه الجمال و الرفيع و الصادق و النبيل و الترانسندنتالي. ذلك ما تحقق في العصر القديم مع الإلياذة و الأوديسا لهوميروس في اليونان القديمة و الأنييدا(L Eneide) لفرجيل في الرومان القديمة، شعرا بل ملحميات. و مع زرياب عند العرب و كثير أقوام معهم في القرن التاسع الميلادي، زمن امتدادهم، موسيقى خالدة. و مع شكسبير عند الإنجليز في القرن السادس عشر، موسيقى و مسرحا و شعرا "انتشالية"،بنبل و عظمة المدركات و الانفعالات و الإحساسات الصادرة منها، و التي لم تنضب أبدا، إلى يومنا هذا. و مع المتنبي في القرن العاشر الميلادي، شعرا للجمال و العذوبة...
  و في العصر الحديث، تشمخ أسماء ترمز للأدب أو الفن بالمعنى الذي نقصده ضمن عملنا، من عيار قسطنطين كافافيس، و بابلو نيرودا و طوماس إليوت و محمود درويش...، شعرا بإحساس فادح خارج المشترك بكثير،  و بقوة حماس  ( للإنساني )
________________________________________
18- جيل دولوز و فيليكس غاتاري: ما هي الفلسفة؟ - نفس المرجع - ص:186.   

متفردة، و حنان و محبة وصدق. و من حجم ماكسيم غوركي و دوستويفسكي و غابرييل غارسيا ماركيز و غوستاف لُوكْليزْيُو و أمبرتو إيكو و ميلان كانديرا و عبد الرحمان منيف و محمد خير الدين و عبد الكبير الخطيبي (و هو عالم اجتماع و فيلسوف و شاعر أيضا)...،رواية راصدة ل"روح" من حول أصحابها، مجابهة لأصعب المعضلات الأخلاقية التي تمر بها مجتمعاتهم، موثقة للأحداث المتقلبة التي تتحكم في مصيرها، إبّان حقبة تاريخية معينة، أو تلك التي توجه دفة الأمور في حياتها. و هي رؤى  و إحساسات و أفكار لا بد أنها تساعد الجمهور على تجاوز السقوط في الوهم(19)، من خلال التفاعل مع "أنا أشعر" للدماغ، فنّا، بتعبير جيل دولوز.
   و لا يصح أن نغلق تحديدنا لما نقصده بالفن، دون الإشارة إلى لودفينغ بيتهوفن و سامفونياته الخالدة على امتداد قرنين، و قبله جوزيف هايدن(Joseph Hydn) و موزارت (اللذين استلهم بيتهوفن أعمالهما) و سامفونياتهما الخالدة أيضا ‘لى امتداد قرنين، نتيجة القوة الوجدانية الهائلة فيها، و التي هي خاصية الرومانسية، الضامنة لملامسة شغاف الأرواح و "إشعال" إحساسها، حتى لا يفهم كوننا نحصر الآداب أو الفن فيما يشيع الإحساس بالألم و العذاب و الغبن و الحرمان، فاللورد بايرن(Lord Byren)، مؤسس الرومانسية، كان لوردا أولا، و ورث ثروة هائلة عن أقاربه، و عاش الرفاه في أقصى متعه و ملذاته، إلا أنه خلد اسمه شاعرا كبيرا، يؤرخ به للشعر و تحولاته، لا لشيء سوى لكونه تمكن من تشييد "عالم خاص" به، و من صيانته رغم ارتجاجات و أعاصير الرفاه، و إبداع أشعار تتناغم و ذلك العالم، بل تفوح روائحه منها، إبداعا أخّاذا يفيض عواطف و مشاعر و أحاسيس، و تنبعث منه كهارب رفع منسوب إحساس و إدراك من حوله. و ذلك جوهر كل عمل أدبي و فني.
________________________________________
- Jerome Kagan : The three Cultures, Social science and Huma--19
                        Nities in the 21th century - Cambridge university
                        Press -U.K.2004- p.:271

   و أما ما نقصده بالفلسفة، فلا هو تاريخها، و لا هو فلسفات عصور أخرى سابقة، أجابت عن معضلات و أسئلة زمنها، بعقل زمنها، و لا هي بذلك الخطاب الشمولي الباحث عن الحقيقة، كما اشتهرت قديما، و يستمر الترويج لها، و لا هي بالتخصص الضيق الذي يسجن المشتغل بها نفسه داخل شرانقه، و لاهي تمت بصلة لأنماط الخطاب التي تلتمس "الوقار" و "الهيبة" و "الصرامة" و "الجدية"...(20)،لا،ليست الفلسفة التي نقصد، بهذه المعاني أبدا، بل بمعناها المعاصر، أ, الجديد، حيث أحدث فلاسفة كبار، و مفكرون و علماء أيضا (ما دامت الفلسفة لم تعد حكرا على الفلاسفة بالمعنى التقليدي، إن لم نقل أنها باتت تزهر خارج ميكروكوزمها  الذي لم يعد مسيّجا)، من أمثال حنّا أرندت و ميشيل فوكو و ليفي ستروس و جاك ديريدا و لويس ألتوسير و جيل دولوز و فيليكس غاتاري و بيير بورديو و دانييل دُونيكُولا... .هزّة عنيفة في الفلسفة، أعادت ترتيب علاقتها مع العلوم الإنسانية و خصوصا مع السوسيولوجيا،و كذلك، مع الأدب و الفن عموما، و أحدثت شرخا شاسعا و مدوّيا في منهج الفلسفة السائد إلى غاية كانط و ديكارت، بل و جون بول سارتر، حيث تخلّت الفلسفة على أيدي هؤلاء عن خطابها العمومي و الشمولي بمفاهيمه الشمولية المشهورة (الوجود، العقل الكلي، الحقيقة، التأمل، البرهان، النسقية، الاكتمال...)، و كأنها هزّة أرضية شهدتها ساحة الفلسفة (21)، و عادت إلى "الأرض"، مما فرض عليها، علاوة على المعرفة بعالم الأفكار، امتلاكا لمعارف حول شروط حياة من يحيا حول صاحبها، و فهم الفيلسوف أنه ملزم بألا يظل سجين المزعوم (و المكرّس) تخصصا هو تخصصه (شرنقته)، وأن عليه أن يكلم باقي الكائنات الإنسانية حوله، مما جعله ملزما باكتساب  معارف جديدة مرتبطة بطرق العيش  الجديدة  و بالتواصـل
________________________________________
20- ديرار عبد السلام: الفلسفة درسا وتهديد المزالق- في روح الفلسفة بمعناها الجديد
                       و مكر المؤسسة - مجلة - علوم التربية (المغربية)- العدد:53- 
                       2012- ص: 59-81.    
21- علي حرب: النص و الحقيقة - 3- الممنوع و الممتنع - نقد الذات المفكرة - 
                      المركز الثقافي العربي - ط. 1 - 1996 - ص:41.

الاجتماعي الذي يوجد في قلب الأخيرة (طرق العيش الجديدة) و يوجهها بقوة (22). لقد أنزل الفلاسفة الجدد الفلسفة من عليائها التأملي (و الذي كان له ما يبرره عند اليونان ما دام الفلاسفة كانوا جزءا من طبقة مالكي العبيد المصنوعين من ذهب ! و الذين لا تلامس أياديهم التراب ! )، إلى معمعة المعيش اليومي الصاخب، ضمن نقلة نوعية غاية في الجذرية لم يسبق للفكر الفلسفي أن عرف نظيرا لها على امتداد تاريخه الطويل، و إلى المدى الذي يجعل من المستعصي تصنيف الفلاسفة الجدد بالمعايير التقليدية، و حتى بتلك التي ظلت سائدة إلى حدود العقود الأولى من القرن العشرين. و إلا فأين نصنّف ميشيل فوكو؟ فيلسوفا؟ مؤرخا؟ عالم نفس؟ ...؟ و ماذا عن جيل دولوز؟ هل نصنفه فيلسوفا؟ أم سوسيولوجيا أم ناقدا أدبيا؟ أم مؤرخا؟ و الفيلسوف الأمريكي اليوم دانييل دونيكولا، حين يكتب كتبا بعناوين:"فهم الجهل"(Understanding Ignorance) و "التعلم للإزهار"(Learning to (flourish ...،أين نصنفه؟ فيلسوفا؟ سوسيولوجيا؟ عالم تربية؟...و ينطبق ذلك ،و بشكل صارخ على بيير بورديو و جون سيرل و جون ميلر و إدغار موران و حنا أرندت ...،و على معظم الفلاسفة المعاصرين ، ما دمنا نصادفهم فلاسفة و مؤرخين و لسانيين و نقاد أدب و أدباء و فنانين أيضا.

   إن الذي نقصده بالفلسفة-ضمن عملنا- هو "روحها"الجديدة، أو منهجها الذي هو الحفر و النقد و التفكيك(منهجا) يمارس على الوقائع و الأحداث على الأرض، أكثر مما يمارس على الأفكار في العديد من الحالات، و حتى حين يمارس على الأفكار، فضمن علاقتها الوثيقة بالوقائع، أي باعتبارها فاعلا و مؤثرا في منطق اشتغالها. ذلك ما كثّفه جيل و دولوز في آخر مشواره الفلسفي الثري و الطويل، و بالاشتراك مع فيلسوف لامع آخر هو فيليكس غاتاري، حين قال أن الفلسفة هي إبداع المفاهيم ،و هو التعريف الذي ينقل الفلسفة من طوباوية البحث عن الحقيقة إلى حيّز أدوات البحث، إذ أن المفاهيم ليست مفردات للحقيقة ، بقدر ما هي أدوات أو مفاتيح  تتعامل  مع  أجواء 
________________________________________
- Denis Huisman: Socrate sur Internet. Pour une philosophie    -22
                        "médiatique" - Ed. : Fallois- Paris - 1997- p :24.

الحقيقة (23)،وأن ليس هناك مجال لإقامة تعارض بين المعرفة بواسطة المفاهيم و بين المعرفة عن طريق بناء المفاهيم(24).
   و سواء تعلق الأمر بالمفهوم عند جيل دولوز و فيليكس غاتاري، أو الفينومينولوجيا الحافرة عند حنا أرندت، أو "المطرقة" أداة فلسفية (فتاكة!) عند نيتشه، أو "الأركيولوجيا" عند ميشيل فوكو، أو الفكر المركب عند إدغار موران...،فإن معنى الفلسفة و رهاناتها تبقى واحدة،هي مواجهة "العالم" لفهمه، أو استخراج الأحداث المكثفة من حالة أشياء العالم، أو تشخيص الصيرورات داخل كل حاضر يمضي، باعتبار الفيلسوف "طبيب الحضارة"(25)،الطبيب الذي "يعالج" من حوله، بجعلهم قادرين على سماع ما لم يكن متاحا لهم سماعه ،و ما كانوا لا يملكون "أدوات" سماعه، و ما كان يراد لهم عدم سماعه، من رنّات و تقاسيم الوقائع و الأحداث حولهم، بلغة أكثر تبسيطا.
   و الآن نتساءل : ما هي رهانات تعليم و تعلم العلوم و الفلسفة و الآداب بالمعاني التي حدّدنا لكل منها فيما سبق من هذا العمل؟ ما هي الاختلافات بينها؟ و ما هي التقاطعات التي تلتقي عندها؟ .

 II- رهانات تعليم و تعلم العلوم و الفلسفة و الآداب : الاختلافات:

   من خلال تحديدنا لكل من العلم و الفلسفة و الآداب أو الفنون بالمعاني التي نقصدها ضمن عملنا، يبدو واضحا أن لكل صنف من الأصناف المعرفية الثلاثة ما يميزه عن الآخر، على مستوى طرق اشتغاله أو مناهجه، و رهاناته أو غاياته، و موقعه أو أهميته بالنسبة للإنسان...، فالفلسفة و الفن و العلم ليست موضوعات ذهنية لدماغ مُموْضع، و إنما هي الأوجه الثلاثة، و العوّامات التي منها  يقفز و  يغطس  في السديم
________________________________________
23- جيل دولوز و فيليكس غاتاري: نفس المرجع - ص:33.
24- جيل دولوز و فيليكس غاتاري: نفس المرجع - ص:32.
25- فريديريك نيتشه: في : ما هي الفلسفة؟ - مصدر مذكور سابقا - ص:124.

و يواجه (26)، و معلم كل منها - بناء على ذلك- يفترض فيه أن يكون " معلم سباحة"، يرافق المتعلمين و هم يرافقون الدماغ في قفزه و غطسه، منبّها (معلم السباحة) لهم ل"حركاته" و "مهاراته" و أدوات "سباحته" (الدماغ) في كل منها (الفلسفة، العلم، الفن)، وطبعا، حسب درجات إتقانهم للقفز والغطس. فما هي رهانات مرافقة "القافز" و "الغطّاس" ؟ وما هي رهانات تعليم و تعلّم العلوم و الفلسفة و الفن؟

 أ- رهــانـات تـعليم و تـعلـم العلـوم:

   تعليم وتعلّم العلوم، ضمن المنظمة المدرسية، عبر العالم، و إن كان يخضع للتجزيء، لحسابات بيداغوجية و إجرائية معلنة، و أخرى خارج - بيداغوجية غير معلنة، ترتبط بالتكوين الشرعي المطلوب، و المحتوى المطبوع المرغوب، و بمدة الطبع (inculcation) أو مدة التكوين الشرعي، لنيل اعتراف الجماعة أو الطبقة السائدة بالإنسان المنجز الحاصل على الكفاءة الشرعية، و الذي ليس إلا ذلك الإنسان الذي تحتاجه الجماعة أو الطبقة السائدة (27)، هو (تعليم و تعلّم العلوم) نشاط معقد يراهن على ربط المتعلمين بنظرة إلى العالم و الحياة، هي النظرة العلمية، عبر معارف و مهارات، نظرية و عملية أو تطبيقية حول العلم، يفترض أن يمتلكها "المعلم" . و ليست تلك المعارف و المهارات، غير معارف و فهم العلماء عبر إمساكهم بأجوبة حول أسئلة تخص الظواهر الطبيعية و الإنسانية.
   و بالرغم من تجزيء العلوم الطبيعية إلى فيزياء و كيمياء و بيولوجيا و جيولوجيا و فلك...، و تجزيء كل منها إلى فروع أضيق، كالفيزياء الفلكية و الميكانيكية و فيزياء الكمّ و فيزياء التموّج و فيزياء الجسيمات و الفيزياء الإحصائية و فيزياء المادة المكثفة...، بالنسبة للفيزياء. و هكذا بالنسبة لكل العلوم التجريبية. و تجزيء العلوم الإنسانية إلى علم التاريخ و علم النفس و علم الاجتماع والانتروبولوجيا و الجغرافية
________________________________________
26- جيل دولوز و فيليكس غاتاري: نفس المرجع - ص:215.
- Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron : La reproduction     -27
                                             Op.cit - p :48.

البشرية...، و تجزيء كل منها كذلك إلى فروع كعلم النفس الشخصية و علم النفس الوراثي و علم النفس المرضي و علم النفس الاجتماعي، و علم النفس التربوي و علم النفس الصناعي ...، بالنسبة لعلم النفس. وكذلك الحال بالنسبة لكل العلوم الإنسانية، بالرغم من كل ذلك، فإن رهانات تعليم و تعلّم هذه العلوم، تبقى واحدة (ضمن تنوع في الأساليب و الطرق و الأدوات)، هي، في أشكالها البسيطة، أي في المراحل الأولى للتعليم و التعلّم، تنمية مهارات خاصة كالملاحظة و التصنيف و البرهنة والقياس والتواصل، فاكتساب فهم للمعارف العلمية المنجزة، و نمو لمهارات إيجاد حلول للمشاكل، و مهارات للاستكشاف. و في أشكالها العليا، أي في مراحل متقدمة للتعليم و التعلم، تنمية مهارات بناء تعميمات لتفسير ظواهر طبيعية و إنسانية، و تطبيقها لحل مشاكل الحياة اليومية، ثم تنمية فهم العلاقات بين العلم و المجتمع، و تعزيز روح الإبداعية لدى المتعلمين لدفعهم باتجاه المساهمة في الابداع و الابتكار العلميين (28)، تعميقا لسيرورتين معرفيتين حاسمتين(إلى جانب الثالثة التي سنتعرض لها في الفقرة اللاحقة من هذا العمل)، في تاريخ الإنسانية على الأرض: سيرورة العلوم الطبيعية التي تمضي قدما(رغم التعثرات) في كشف أسرار الطبيعة، و الكون أيضا، و إضافة جديد كل يوم إلى رصيدنا من وسائل و موارد الرفاه   المادي و سبل الرعاية الصحية، في نفس الوقت الذي تميط فيه اللثام عمّا يحيط الظواهر الطبيعية من غموض و ألغاز(29).، و سيرورة العلوم الإنسانية التي تمضي بخطى حثيثة، في كشف المنطق الداخلي للظواهر الإنسانية و الاجتماعية، الفردية و الجماعية. إلا أن نتائجها و محاصيلها تستثمر (و بضراوة)، في نقيض ما يفترض استثمارها من أجله
________________________________________
- Glens,S. Alikenhead : Science for everyday life- Evidence        -28
                           Based practice  - Teachers College Press - Canada-
                           2005.
- Jerome Kagan : The three Cultures - op.cit- p :322- 29

في الغالب (30)، و الذي هو خدمة الأفراد و علاج معضلات و مشكلات المجتمعات، و كل ذلك، ما عرّاه ميشيل فوكو من خيوط بين المعرفة و السلطة، و تحكم الثانية في الأولى، إنتاجا و رواجا و استثمارا.
   و بلغة أكثر تبسيطا، فالمقصود بالعلم ضمن عملنا هو ذلك الصنف المعرفي الذي يبني الظواهر و الوقائع الطبيعية والإنسانية بناء علميا، أي كاشفا للتفاعلات الواقعية بين عناصرها، و فيما بينها، ماسكا بعواملها الفاعلة، قادرا على التنبؤ (في حدود تطوره و تطور التكنولوجيا) بمساراتها. أو هو بناء لحالات الأشياء و الظواهر الإنسانية، مرفقة بوظائفها وبعلاقات التأثير و التاثر بين عناصرها، و فيما بينها، بالشكل الذي يسمح بفهمها أولا، و بالتالي (و هذا هو المهم في العلم)، التخلص من كل تفسير خرافي أو ميتافيزيقي للظواهر الطبيعية و الإنسانية. و كل ذلك، بعيدا عن التخصص الفائق الذي يكسر النسيج المعقد للواقع، كما سنفصل ذلك في المحطة اللاحقة من هذا العمل.

  ب- رهانات تعليم و تعلم الآداب أو الفنون: 

   تعليم و تعلم الآداب أو الفنون ضمن المنظمة المدرسية هو ما يقدم للمتعلمين، أو ما يتفاعلون معه، ضمن "دروس" مجزأة، و انتقاء للدلالات، شعرا و رواية و مسرحا، و نحتا و تشكيلا و موسيقى...، مما يغيّب "روحها" الأساسية، و رهانات تعليمها وتعلّمها، باعتبارها تشكل مُجتمعة النمط المعرفي الثالث، إلى جانب العلم و الفلسفة، الموكول لأصحابه (أو المفترض فيهم) إقامة نُصب (شعرا أو قصة أو رواية أو نحتا أو مسرحية أو قطعة موسيقية...) مرفقة بإحساساتها ، في مقابل الفلسفة  التي تحـقـق
________________________________________
30- ليس جديدا القول كون علم النفس مثلا يوظف في الإعلام للتضليل و الاقناع السري و خلق اهتمامات بالهامشي و حتى الحقير عند ضحاياه، و كون السوسيولوجيا توظف أداة للتحكم في الحشود و توجيهها ...، و الانتربولوجيا أداة فتاكة لحشر شعوب بكاملها في "الماقبل منطقي" و "البدائي" و "المتخلف" و "اللاعقلاني"...،و التاريخ لسرد "البطولات الوهمية" للملوك و "الطبقة"... .

انبثاق أحداث مرفقة بمفاهيمها، و العلم الذي يبني حالات للأشياء مرفقة بوظائفها (31)، نُصب ضامنة لرفع منسوب إحساس من حول صاحبها وكل من يتفاعل معها. وليست الاحساسات غير إحساسات بالجمال و الجماليات و الخير و العدل و العدالة     و الحق...،إعلاء من شأنها و تثمينا و تعزيزا لها و للسعي من أجلها، ب"اللغة" الفنية الإبداعية التي تتسرب إلى أعماق الأرواح و الكينونات، أو بشاعة القبح و الظلم و الاستبداد و الباطل و العار...،ذمّا و تنفيرا و إدانة، بنفس "اللغة" الفنية الساحرة. إنه ال"أنا أشعر" للدماغ، فنّا (جنبا إلى جنب مع "أنا أدرك" فلسفة، و "أنا أكشف الوظائف" علما(32)، و هو ما يجعل الآداب و الفنون تعبيرا حيّا(أوعلوما!) عن التغيرات التي تلحق المزاج الاجتماعي العام للشعوب، و ما يعتمل بدواخلها، و ما يستنهض هممها، و أحلامها و طموحاتها، وأفراحها و ما يأتي بها، و آلامها و مصدرها...،جراء التحولات التاريخية(33).
   و الحديث عن "الإحساسات" هو حديث عن الخيال والمخيال، إذ لا إحساس أمام الأشكال الإبداعية و الجمالية، لعديم المهارات التخييلية و "مثقوب" المخيال بالفراغ أو المحدودية، أو ب"الزحام-لاشيء"!، أوبالجملة، عديم ما بات يعرف بالمهارات الناعمة، و التي سنعود إليها بالتفصيل عند تحليلنا للتقاطعات بين تعليم و تعلم كل من الآداب و الفلسفة و العلم، فهي (المهارات الناعمة)، بات ينظر إليها أساسية ضمن المعرفة العلمية أيضا.
   و بناء على ما سبق، فإن تعليم و تعلم الآداب أو الفنون، بالمعنى الذي نقصده ، هو خلق سياقات يتفاعل فيها المتعلمون(بكل مستويات التعليم النظامي، من الابتدائي إلى العالي) مع روائع شعرية أو روائية أو مسرحية، أو موسيقى ترانسندنتالية، عالمة و روحية، أو أعمال تشكيلية رائعة و ساحرة...،تلامس شغاف أرواحهم، و تنشّط خيالهم
________________________________________
31- جيل دولوز و فيليكس غاتاري:نفس المرجع- ص: 205.
32- جيل دولوز و فيليكس غاتاري:نفس المرجع- ص: 216.
- Jerome Kagan: The three Cultures - op.cit- 33. -33

و توسّع مخيالهم و تؤثثه بالجمالي و الإنساني. و تعليم و تعلّم الآداب و الفنون بهذا المعنى هو مرادف للتدريب على الفكر الإبداعي، و توسيع العقل و قدراته، و تغذية الروح، و فرص للنمو الفكري و العاطفي أو الوجداني، و النفسي، و تطوير الحس الإبداعي، و الشعور بالاستقلالية (خصوصا عند الصغار). كما أن الأدب أو الفن، بهذا المعنى يساعد المتعلمين في المضي باتجاه كل إمكانياتهم (potential)، بالإضافة إلى تحسين نشاط جهازهم العصبي و مهارات توجيه مساراتهم. و له كثير من الآثار الإيجابية على طبع و شخصية الطفل(34)، فالاحتكاك و التفاعل الخلاق مع الأعمال الفنية و الإبداعية، يعزّز روح الإبداع و الثقة، و يكسب مهارات حل المشكلات، و الصبر و التصميم، و مساءلة الذات عن أفعالها و أخطائها، كما يشجع على التركيز على العمل الجماعي، و يكسب مهارات العطاء و الأخذ بردود الفعل الإيجابية. كما "يحرّض" على التفاني...(35). و هي كلها محاصيل لدرس الأدب أو الفن، دون غيره، بل إن درس العلوم يتوقف عليه فيها، كما سنفصل ذلك لاحقا، تماما كما يتوقف درس الأدب أو الفن على الكثير ممّا في درس العلم و الفلسفة، كما سنفصل ذلك لاحقا.

ج- رهانات تعليم و تعلّم الفلسفة: 

   قد يكون من السهل بالنسبة للقارئ المتفحّص للمحطات السابقة من هذا العمل، استنباط ما نقصده برهانات تعليم و تعلّم الفلسفة، من تحديدنا لما نقصده بها، إلا أننا نفاقم التوضيح، دون شعور بكوننا نجترّ، ما دام درس الفلسفة الذي يضفى عليه الكثير من الهالة، باعتباره درسا للفكر النقدي التمحيصي، ليس أبدا في مأمن من المزالق، بل
________________________________________
- Knight. B, : Intelligence and interrogation- The identity of     -34
English students, in: Arts and Humanities in higher
Education- H.1, p.p.:33-35.
- Knight, B. : Op.cit. p.:35. - 35
   

إن انكساراته، و هو مقيّد بمكر المؤسسة، قد تكون أفدح من انكسارات كل الدروس،
خصوصا على  مستوى رهانات  تعليمه و تعلمه، مما  ينعكس على أساليب  تصريفه.
فرهانات تعليم و تعلم الفلسفة بمعناها المعاصر، الذي حددناه سابقا بتفصيل، هي تعليم المتعلمين كيف يفكرون، تفكيرا منطقيا نقديا، يجنّبهم القابلية للتضليل و التمويه و الانخداع و الإقناع السرّي و القطعنة...،و بالتالي، يحيون حياتهم أو وجودهم بوعي، و باستقلالية، عن معلّمهم أولا، وإلا لما تجاوزته (الاستقلالية) إلى غيره، المتربّص بهم، في الإعلام و السياسة و التجارة و الدين...و واضح جدا أن مهمة المعلم/زرادشت هي قلب و تحطيم العلاقة التقليدية بين المعلم و المتعلم، حيث يكون المتعلم استمرارا للمعلم و تكرارا لصورته.إنه تكرار صورة الأب في الإبن: مثل الأب، فإن المربي و الطبقة و الراهب في كل مناسبة جديدة، يرون في كل كائن جديد موضوعا للامتلاك(36). إن رهان درس الفلسفة بمعناها الجديد، ليس خلق نماذج مكرّرة لمعلم الفلسفة في متعلميه أو طلابه، مكررة بالمعنى الإيديولوجي أو المذهبي(الممقوت)،الذي يخلق الأتباع العميان، المناقضين بالمطلق لروح الفلسفة، بل حتى بالمعنى "العقلاني"،و مستوى العقل و حدوده عند هذا المعلم الذي سيبقى "رجعيا"-كما تقول حنّا أرندت-مهما كان مستوى عقله، بالقياس إلى ما سيفكر به متعلّمه في المستقبل، حين أن العقل ليس أبدا ماهية، قد تطور(37). لذا يفترض فيه (المعلم) الاقتصار على "مناداة" هذا المتعلم، واثقان فنون و علوم هذه "المناداة" ، و التي ليست غير توفير شروط أو سياقات لاشتغال عقله [احدث أدوات التفلسف في زمنهما (المعلم و المتعلم)، حيث ينفضح درس الفلسفة الذي  يشحن  أذهان  المتعلمين بمعارف حول الفلاسفة و المذاهب الفلسفية و   تاريخ الفلسفة ،  نقيضا  تماما  لروحها 
________________________________________
- Frederick Nietzche : Considérations inactuelles- Œuvres       -36
                          Œuvres Complètes - T.3- Schopenhauer éducateur
                          - Ed. Folio- 1992. 
- Hanna Arendt : La crise de la culture - Edition Gallimard-        -37
                           Coll. Folio (n° :113) - 1989.

و لرهانات تعليمها و تعلّمها، و هو ما كثّفه نيتشه بلغته الشاعرية ، مخاطبا طالب الفلسفة بالقول:"مربّوك الحقيقيون، الذين يكوّنونك (Wahren Erzieher und Bilden) يخدعونك، و هو المعنى الحقيقي الأصلي (der wahre ursinn)...(نقل المعارف و المعلومات...)، لأن المربي الحقيقي هو الذي يكشف عن اتجاه نحاول المضي إليه من غير أن نعلم...(38). و ليس هذا "الاتجاه" عند صاحب "المطرقة" الرفيعة، مذهبا أو عقيدة أو عقلانية قائمة...،بل هو مضي نحو ضرب بالمطرقة أرفع و أدق (مما توصل إليه العقل الفلسفي لحد الآن)،يفضي إلى سماع ما لم يكن متاحا سماعه، و ما كان يراد عدم سماعه، لحد الآن ،من رنات و تقاسيم الوقائع و الأحداث حول المتفلسف (المنتظر)،بلغة جيل دولوز و فيليكس غاتاري.

   و في تعريف جيل دولوز للفلسفة بكونها هي فن تكوين و إبداع و صنع المفاهيم (39)، و بكونها -بتدقيق أكبر- هي الحقل المعرفي القائم على إبداع المفاهيم (40)، تزداد وضوحا رهانات تعليم و تعلم الفلسفة، باعتبارها هي تعليم و تعلم ممارسة السؤال و الحفر و النقد و النبش، إذ ليست المفاهيم أبدية، بل تتطور...،و ينبغي على المفاهيم الجديدة أن تكون على علاقة مع مشكلات من مشكلاتنا، و مع تاريخنا، و خاصة مع صيروراتنا...،و إذا كان مفهوم ما "أفضل" من السابق، فذلك لأنه يسمعنا تغيرات جديدة و رنّات غير معروفة، و يحقق تقسيمات مخالفة و يجعل حدثا يحلّق فوق رؤوسنا...و أحسن طريقة لاتباع الفلاسفة الكبار، ليس في ترداد ما كانوا قد قالوه، بل القيام بما قاموا به، أي إبداع مفاهيم لمشكلات تتغير بالضرورة(41). و هذا ما لخّصه ميشيل فوكو حين قال أننا لا نتصور فيلسوفا كبيرا، دون أن نقول عنه: إنه  غيّر من دلالة الفكر، أ, فكّر بشكل مختلف(42).  أي أن تعليم و  تعلم  الفلسفة ،  ليس
________________________________________
F. Nietzsche:  Op.cit. p38 - 38 
39- جيل دولوز و فيليكس غاتاري: نفس المرجع - ص:28. 
40-  جيل دولوز و فيليكس غاتاري: نفس المرجع -ص:30.
41- جيل دولوز و فيليكس غاتاري: نفس المرجع- ص:49.42- ميشيل فوكو: في: "ما هي الفلسفة؟ : جيل دولوز و فيليكس غاتاري : نفس المرجع- ص:68.
       
سوى تدريب على الضرب بالمطرقة على الأحداث و الوقائع حول المتعلمين، مع فلاسفة مهرة، يجيدون الضرب بمطارق دقيقة.
   و الوقائع و الأحداث ليست "فلسفية" محضة، كما تصورتها الفلسفة القديمة و الكلاسيكية، و استمرت في تصورها إلى عهد قريب، بل و تستمر أصوات مخدوعة (بعقل غير عقل زمانها)،أو مخادعة(تراهن على فصل الفلسفة المعاصرة عن موضوعها)،في تكريس ذلك التصور، بل مركبة ،فيها التاريخي و الاجتماعي و النفسي و اللغوي...،و منها ما يقتضي معارف و مكتسبات علمية بالمعنى التجريبي، ناهيك عن شيء من الرياضيات و كثير من علم المنطق، تماما كما أن المعرفة العلمية الدقيقة ليست مجرد تراكم للمعارف التجريبية و العقلانية، وإلا لما تمكن متعلّموها من فكّ شفرات مجموع خصوصياتها و عمومياتها، الذي يرتبط بطريقة في التفكير تؤطر تلك المعارف، و ب"معرفة حول المعرفة" أو ميتا معرفة تسمح بتنمية موقف مسؤول تجاه استعمالها...(43)،أي بالفلسفة. و كذلك الأمر بالنسبة لعلاقة الفن بالفلسفة، و العلم أيضا، كما سنفصل ذلك في محطتنا اللاحقة و الأخيرة من هذا العمل.

III- رهانات تعليم و تعلم العلوم و الآداب و الفلسفة: التـقـاطـعـات:   

   من خلال المحطات السابقة من هذا العمل، يتضح كون تعليم و تعلم العلم و الأدب أو الفن و الفلسفة، هو تدريب على ثلاثة أنواع من التفكير، أو أصناف من أصناف المعرفة: التفكير العلمي و "التفكير" الأدبي أو الفني و التفكير الفلسفي. أو بتعبير جيل دولوز و فيليكس غاتاري هو تدريب لأدمغة المتعلمين على "أنا أدرك" ضمن الدرس الفلسفي، و على "أنا أشعر" ضمن الدرس الأدبي أو الفني، و على "أنا أكشف الوظائف" ضمن الدرس العلمي.
   و إذا كان لكل من هذه الدروس الثلاثة رهانات تخصه، و لا يمكن لغيره ادعاء تحقيقها، كما فصلنا ذلك سابقا، فإن ذلك لا يعني أبدا الانفصال التام بينها، و قابلية 
________________________________________
- Giordan, A. and Pelland, in : "The challenges of Science edu--43
cation" - Council of Europe - 1999.
                    

تعليم و تعلم كل منها في استقلال تام عن الدرسين الآخرين، و بمعزل عنهما، بالرغم من كون كل منها يتبع طريقا خاصا به، إذ يتعلم المتعلم في درس الفلسفة كيف يتعلق تكثّف المفاهيم (الفلسفية) بالأحداث، و في درس العلم، كيف يقوم مرجع الوظائف العلمية في حالة أشياء أو خلائط (44)،وفي درس الأدب أو الفن، كيف تنبض النّصب و التحف و الروائع...بإحساساتها، بل إن التعليم الفعلي و الفعال لكل منها ، بعيدا عن الحسابات  و الرهانات الخارج-تعليمية، أي السياسية و الاقتصادية الضيقة، حيث التربية الفائقة التخصص، تعوّض أشكال الجهل القديمة، بعمى جديد (45)،لا يمكنه أن يزهر بمعزل عن الأخرى، و إلا فإنه التخلف الفكري و النفسي و الأخلاقي، ما دام التكوين التخصصي الضيق الذي يتلقاه المتعلم، يعلمه فصل كل شيء، و يفقده القدرة على الربط، و من تمّ القدرة على التفكير في المشاكل الأساسية و الشاملة(46). لا بل، و حتى التفكير السليم فيما يتوهم معزولا عن غيره. فتعليم و تعلم العلوم دون أن يصاحبه تعليم و تعلم الفكر النقدي، أي شيء من الفلسفة ،يتحول إلى ما يحاكي تعليم و تعلم عقائد، ليس من جهة أهمية، بل ضرورة حضور الحس الإبستمولوجي، خصوصا في المراحل المتقدمة من التعليم(عند متعلمي الفصول النهائية للتعليم الثانوي و طلبة الكليات العلمية)، بل من جهة مرافقته أبسط أنشطة الدرس العلمي، لكي يتيسّر للمتعلمين فهم "الاحتمال" إلى جانب الحتمية أو فيها، و "النسبية" في مقابل المطلق، و إدراك معنى كون الرياضيات المعاصرة بات موضوعها هو البنيات، و كون كل العلوم ، باتت تسعى لصياغة نفسها على طريقة الرياضيات، أو  صياغة أكسيومية...
 و كذلك الحال بالنسبة لتعليم و تعلم العلوم بعيدا عن الفن بكل أشكاله، إذ غالبا ما يسقط مدرّسو العلوم في فخّ كون العلم و الفن متعارضان، فينجرفون إلى حال " الكائنات التمارينية" الجافة، التي تتصور العلم "يقيم" خارج عالم التجربة الإنسانية،
________________________________________
44- جيل دولوز و فيليكس غاتاري: نفس المصدر المذكور -ص:137
45- Edgar Morin : La voie -Pour le futur de humanité -op-cit-       -
p : 38 
46-      Edgar Morin : op.cit -p :40-     

بدل أن يكون قسطا متخصصا منها. مما يجعل حصصهم مع متعلّميهم (تلاميذ و طلبة) خالية من الحياة ، في الوقت الذي يطلب منهم أن "يحيدوا" عن معايير اللغة العلمية (الصارمة)، إن هم أرادوا تلامذتهم أن يعطوا قيمة للعلم كنشاط إنساني، و يستوعبونه باعتباره كذلك، حيث تشكل القصص (مثلا)(أي الأدب و الفن)، برصيدها السردي و الدرامي، أداة لجعل المتعلمين متعطشين للتعلم، و منخرطين في التواصل(47). و يناشد David Edwards اليوم، و هو عضو هيئة التدريس بكلية العلوم التطبيقية بجامعة هارفارد، زملاءه من العلماء و غيرهم من المتخصصين في الإنسانيات و الفنانين، أن يخرجوا ،كلّ من شرنقته الفكرية التي يتقوقع فيها ...، ما دام الابتكار المعاصر و السرّ في ابتكار أشياء جديدة بمنافع كبرى، يأتي من إدراك الفن و العلم كواحد!(48). و هو نجح-بالفعل- في جمع فنانين و رياضيين و مهندسين و روائيين (وآخرين) للاشتراك في إبداع أشياء بفوائد مستديمة.
و كم ستكون منافع و محاصيل "الفن و العلم كواحد"،لو جعل مدرسو العلوم متعلّميهم يستدخلونها في بنياتهم المعرفية و تمثّلاتهم للمعرفة، عبر كل مراحل تعليمهم، لا كوصايا ! أو كدروس مستقلة يقدمها أستاذ الفلسفة أو الإبستومولوجيا، أو الآداب أو الفنون، بل ضمن درس الفيزياء و درس البيولوجيا و درس الرياضيات و علم التاريخ و الجغرافيا البشرية....
     و تعليم و تعلّم الفنون أو الآداب، بمعزل عن الفلسفة، أو بإغفال التداخلات و التعالقات بينهما، حرمان للمتعلمين من روحها، ما دامت الفنون عموما، سواء تعلق
________________________________________
-Lemk,J.L.: Talking science: Language, learning and values.      - 47
                   Ablex Publishing Corporation- Norwood, New Jersey-
                   1990-p.:113.
-David Edwards: Creating things that matter-The art and         - 48
                  science of innovation that last- Henri Holt and 
                  Co.Publisher-2018.

 الأمر بالشعر أو الرواية أو النحت أو الموسيقى، تتحدى كل الفلسفات! لأنها فلسفة "مناداة" (إنسانية" للمحبة و التحابّ و السلم و التعايش و الخير و الحق و الجمال والترانسندنتالي،مراهنة على تهذيب الأرواح و التربية على كل قيمة رفيعة. فالموسيقي (كما الشاعر و الروائي و المسرحي...) الذي يحتفظ بعلاقة ثقة مع فلسفة، تخدمه و تنير طريقه ك "علم أرصاد جوية"، يميّز له المعاصر، أي الزمن الحاضر للفكر الذي يشرط الفكر الموسيقي. و ك"علم رسم الخرائط" الذي يساعده في التوجه داخل الفكر. و ك"جيولوجيا" تستخرج له الشروط العلمية لموسيقاه(49).، و هو ما يلزم أن يحضر في كل درس للأدب أو الفن، حتى لا يختلط في أذهان المتعلمين مع السوقي المبتذل، و الجاهل أساسا، السائد و المسوّق و المروّج بضراوة، لحرمان الحشود مما من شأنه أن يربي على الذوق الرفيع  و تهذيب النفوس و التطلع للجماليات، بالمبتذل المسطح، المفتقد أصحابه لكل رؤية فلسفية ترسم الطريق و معالمها، و تجعل الفنان في كامل الوعي برسالته، مبرزا(دون غيره، سواء كان عالما أو فيلسوفا)،للمؤثرات الانفعالية أو مخترعا أو مبدعا لها، في علاقتها العميقة بالمؤثرات الإدراكية، و بالضبط برؤيته الفلسفية للحياة  و الإنسان و الوجود...،والتي يهبها لنا، ضامنة انتشالنا من عدم الإحساس أو ضعفه، و من "توحّش" عيوننا و آذاننا.
   و من شأن استحضار كل هذا ضمن درس الأدب أو الفن، أن يجعله درس أدب أو فن بالفعل، لا درس قشورهما من جهة، و من جهة أخرى ،درسا باذخا في الفلسفة، و هي التي باتت (بمعناها الجديد) تزهر خارج تخصصها أو ميكروكوزمها ، بالمعنى الضيق المتجاوز، كما فصلنا ذلك سابقا.
    و أما تعليم و تعلم الفلسفة بمعناها الجديد الذي حددناه لها ضمن مدخلنا لهذا العمل، بمعزل عن العلوم، فهو تأخّر لأستاذها عن مواكبة التطورات الهائلة للفلسفة و أدوات
________________________________________
- Giles Deleuze : La pensée musique -Edition : Centre de Docu--49
                      mentation de la musique contemporaine -Paris2001. 

اشتغالها أو منهاجها، و قبل ذلك موضوعها، الذي بات هو الوقائع و الأحداث حول صاحبها. مما يجعل تلامذته أو طلبته لا يخرجون من تعلمها سوى بأفكار عائمة   و تصورات خيالية حالمة، و تمثلات حول الفلسفة و الفلاسفة مشوّهة، تلتقي في العديد من جوانبها مع تمثلات الإنسان العادي.  فالفيلسوف المعاصر -كما وضحنا ذلك في مدخل هذا العمل- أصبحنا نصادفه سوسيولوجيا و مؤرخا و عالم نفس و لغويا...، و بالتالي بات يستحيي من أن يقدم نفسه صاحب أسئلة بدون أجوبة و طارح إشكاليات و مؤشكلا ! و مستشكلا ! 0 و هو ما تستمر قوى داخل حقل إنتاج الخيرات الرمزية نفسه في الترويج له، و إضفاء طابع الشرعية عليه)، بل يقدم أجوبة،هي تركيب رائع لخلاصات و نتائج "البنات" النشيطات و المنتجات باستمرار(العلوم الإنسانية)، بل و حتى خلاصات و منجزات العلوم التجريبية، تركيب يقدم أجوبة و يفك ألغازا، و لا "يؤشكل" أبدا. إذ يجد قارئ الإنتاجات الفلسفية الجديدة نفسه أمام أجوبة شجاعة للإنسان حول ذاته و مجتمعه و قيمه، و العالم الذي يحيا فيه و منطق اشتغال القيم التي توجهه....يقدم الفلاسفة الجدد اليوم أجوبة واضحة حول الجبر و الاختيار، و الحرية كمفتاح لكل تقدم للمجتمعات، و الكرامة و العدالة و الديمقراطية كأسس للمواطنة، و التاريخ الذي ليس خطيا أبدا...و غير هذه و تلك من القضايا التي تشغل بال الإنسان المعاصر و تؤرقه. و كل ذلك بعيدا عن الفلسفة بمعناها عند الفيلسوف الذي كان غارقا، إلى عهد قريب في أسئلة الوجود و التأمل، فتتزوّج خطيبته في غفلة منه، لأنه كان غارقا في تأمله !،أو يسقط في بئر لأنه كان مأخوذا كلية في تأمل الكواكب و أسرارها !.
   و من شأن استحضار استاذ الفلسفة لهذه التقاطعات بين الفلسفة و العلم، ضمن تعليم و تعلم الأولى، أن يجنّبه تيه "حصان" دروسه مع تلامذته أو طلبته، بهم و به، في غياهب إشكاليات لاهوتية أو ميتافيزيقية أو تلك التأملية (التقليدية) البدون أجوبة، أو الشمولية التي تتوهم قول كل شيء و لا تقول شيئا. كما يجعل تلامذته أو طلبته يدركون أهمية الفلسفة بالنسبة لهم، في فهم الكثير من القضايا التي تخصّ حياتهم و العالم الذي يحيط بهم. مما يضمن تعلمهم، عبر إدراكهم كونها منهجا للتفكير فيما لم يمن متاحا لهم التفكير فيه قبل اكتسابه،  منهجا  لإزاحة  الأقنعة و   تحطيم   الأصنام

وزعزعة استقرار اليقينيات والوضوح و الامتلاء و البداهات...،مما يثير فضولهم (وهم شبان) لمشاركة الفلاسفة في "صنعتهم" و اكتشاف آليات اشتغالها في طرحها لأسئلتها، و حفرها و نبشها و تقسيماتها المتجددة.

- ختـم و تـركيـب :  

   نخلص من كل ما سبق، أي من تحليلنا للاختلافات بين رهانات تعليم و تعلم العلوم و الفلسفة و الأدب أو الفن، و التقاطعات بينها، إلى أنه إذا كان من غير الممكن إنكار كون لكل منها رهانات تخصها دون غيرها (اكتساب مبادئ و أسس التفكير العلمي بالنسبة للعلم،و اكتساب أدوات و "مهارات" ممارسة السؤال و النقد و التفكيك بالنسبة للفلسفة، و ارتفاع منسوب الإحساس و نشاط الخيال و المخيال بالنسبة للأدب أو الفن)، فإن فعالية كل "درس"   في واحدة منها (الفلسفة أو الفن أو العلم)، بمعزل عن الموارد التي يتيحها النمطان المعرفيان  الآخران، يبقى درسا بعيدا عن تحقيق كل وعوده، و خصوصا الجوهرية منها، و يكون الفاعل الأساسي فيه(أي المعلم بكل مستوياته)-كما يقول بيير بورديو- ليس منفذ العنف الرمزي فقط، بل ضحيته الأولى، لوقوعه في شراك انتقاء الدلالات و الفصل التعسفي بين ما تربطه كثير تقاطعات. و انتقاء الدلالات هو الذي يعرّف موضوعيا ثقافة جماعة أو طبقة اجتماعية، و هو انتقاء ضروري سوسيولوجيا، لأن هذه الثقافة مدينة في وجودها للشروط الاجتماعية التي أنتجتها، و مدينة بمعقوليتها لتماسك بنية العلاقات الدالة التي تقيمها/تبنينها، بحيث يشكل انتقاء الدلالات نسقا رمزيا، لدرجة أن أي تأثير يقع على عنصر معين، يخلخل بنية النسق(50). و قد بدا لنا واضحا في مراحل سابقة من هذا العمل أن درس العلوم فيه شيء من الفلسفة، يتيح للمتعلمين الخروج من دروسهم (العلمية) بمعارف عقلانية علمية، و بطريقة في التفكير تركيبة، تبنين تفكيرهم و تعطيهم معنى للعالم الذي يحيط بهم، و للمعارف العلمية التي اكتسبوها. و في مراحل تعليمية متقدمة ب"معرفة حول
________________________________________
Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron : La reproduction - -50-
Op.cit - p. :112                                               
   
المعرفة" ،تسمح لهم بتنمية موقف مسؤول تجاه استعمالها، أي المضي باتجاه معنى لتفكير أخلاقي و مواطن (51). كما اتضح لنا أن تعليم و تعلم الشعر و الموسيقى و المسرح و الرواية...، هو في نفس الوقت-ضمن درس فعلي للأدب أو الفن- تعليم وتعلم فلسفة رفيعة، بل هي جزء أساسي من تعلم الشعر و الموسيقى...و لا يكتمل إلا بها، عدا في درس للأدب سطحي و إسمي.كما تكشف تعلم و تعليم الفلسفة بمعزل عن العلوم بمتابة تعلم و تعليم فلسفة عصر آخر، بعتاد غير عتاد فلسفة الزمن الحاضر، و بعقل غير العقل المعاصر، مما يحرم المتعلمين من أجوبة عن كثير أسئلة تشغلهم، تقدمها الفلسفة بمعناها المعاصر، أي و هي تتداخل مع العلوم، تركب منجزاتها و تنير لها الطريق في نفس الوقت.
   إن أنواع التفكير الثلاثة (الفن و العلم و الفلسفة) تتقاطع و تتشابك، و لكن بدون تركيب و لا تماثل فيما بينها. فالفلسفة تحقق انبثاق أحداث مرفقة بمفاهيمها، و الفن يقيم نصبا مرفقة بإحساساتها، و العلم يبني حالات للأشياء مرفقة بوظائفها، و يمكن إنشاء نسيج غني من الترابطات بين المسطحات (les plans)(*). و لكن للشبكة نقاطها الذروية (من الذّروة)، حيث يصبح الإحساس نفسه إحساسا بمفهوم أو وظيفة ، و المفهوم مفهوم وظيفة أو إحساس، و الوظيفة وظيفة إحساس أو مفهوم، لا يظهر عنصر دون أن يتمكّن الآخر من القدرة أيضا، على المجيء، و هو لا يزال بعدُ، غير محدد و غير معروف. كل عنصر مبدع على مسطح يستدعي عناصر أخرى متنافرة يجب إبداعها على المسطحات الأخرى: ذلك هو الفكر باعتباره تكوينا لا تماثليا (hétérogénèse) (52). و ليس عسيرا، اكتشاف الوظيفية وظيفة  إحساس (فادح)
________________________________________
- Giordan A, Pellaud F. : Op.cit. p :64  -51 
(*)يستعمل دولوز مفهوم " المسطح" بمعنى الإطار الذي يقدم فيه (و يرتّب) الفيلسوف أو الفنان أو العالم أفكاره. و هو يقابل ما كان يعرف ب "النسق" في الفلسفة التقليدية.  
52- جيل دولوز و فيليكس غاتاري: نفس المرجع - ص:205 .  

و مفاهيم مزلزلة (العنف الرمزي، التعسف الثقافي، الخيرات الرمزية، الطّبع، النبلاء الجدد، الهابيتوس...) عند عالم الاجتماع هو بورديو، و المفهوم مفهوم وظيفة أو إحساس عند فلاسفة مثل حنّا أرندت و ميشيل فوكو و دانييل دونيكولا و جيل دولوز...، و الاحساس إحساسا بمفهوم أو وظيفة عند فنانين مبدعين من عيار بابلو نيرودا و ليو باردي و ميلان كانديرا و غابرييل غارسيا ماركيز....
   و في المكتوب بالعربية، و تقريبا و تبسيطا لما نقصده، فإن كتابات المفكر اللبناني علي حرب، تقدم للقارئ المفاهيم، مفاهيم وظائف و إحساسات (بعاهاتنا و بما يعطّل خلاصنا)، و هو الفيلسوف أو المشتغل بالفلسفة.و تحف المغربي (المنسي) عبد الفتاح كليطو، تقدم لنا الإحساس (الفائق) إحساسا بمفاهيم و وظائف، كما عند فيلسوف و عالم في نفس الوقت، و هو الأديب اللامع (الغير منجمن !). و شذرات الأردني الراحل مؤخرا (مغبونا) خيري منصور، تمتزج فيها الاحساسات و المفاهيم و الوظائف ضمن أسلوب ساحر، يجعل القارئ يخال نفسه أمام نص علمي و شذرة فلسفية (نيتشوية !) و نص فني، و هو الشاعر الفادح الإحساس (بويلاتنا و ضياعاتنا و الهلاك الذي يقف على أبوابنا...) . و ذلك ما يسميه جيل دولوز و فيليكس غاتاري، نوعا آخر من التقاطع الدخلي (بين العلم و الفن والفلسفة)، اي عندما يبدو أن المفاهيم أو الشخصيات المفهومية تخرج من مسطّح محايثة قد يتعلق بها، كَيْما تنزلق على مسطح آخر يقع بين الوظائف و المراقبين الانفراديين، أو بين الإحساسات و الأشكال الجمالية، و الأمر عينه بالنسبة للحالات الأخرى. هذه الانزلاقات بارعة جدا، كحال انزلاق زرادشت في فلسفة نيتشه، أو حال إيغيتور Igitur (*) في شعر مالارميه، بحيث أنها توجد على مسطحات  معقدة  صعبة  الوصف. و   المراقبون  الانفراديون
________________________________________
(*)Igitur هي حكاية فلسفية غير مكتملة، نشرت عام 1925 ، بعد موت مالارْميه. 
    و Igitur يقدم لنا الموت كالوسيلة الوحيدة الممكنة لإعادة الانصدام الروحي. فلكي
    ينطفئ المرء، يتوجّب عليه أن يضلّ، أن يستلب، و لكي ينشعل من جديد، عليه أن
    ينطفئ....

بدورهم، يدخلون في العلم حساسيات تقترب أحيانا من الأشكال الجمالية على مسطح مختلط (53). و في الحالات القصوى أو المثلى أو الذروات، يشتغل ال"أنا أدرك" (فلسفة) و ال "أنا أكتشف الوظائف" (علما)،و ال"أنا أشعر" (فنّا)، في نفس الوقت، على نفس المسطح بلغة دولوز، كما عند Denis Guedj، الرياضي الذي "طلّق" الرياضيات و أعلن نفسه روائيا، في روايته العميقة الإدراك و الفادحة الإحساس و الكاشفة لكثير وظائف "Le théorème du perroquet".(54).
   و في تحليله لعوامل الركود الاقتصادي و طبيعة أدائه، و الهوّة الآخذة في الاتساع بين ما يتعلمه الشبّان، و المهارات التي يحتاج إليها السوق، و ارتفاع معدلات البطالة بالمجتمعات الصناعية الكبرى، يخلص Edmund S. Phelps الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد لعام 2006، و مدير مركز جامعة Columbia حول الرأسمالية  و المجتمع، و عميد مدرسة Newhaudu للتجارة، و أحد أكبر الخبراء العالميين في مصادر الدينامية الاقتصادية، إلى أن الحجّة التي تساق لصالح التركيز على تدريس العلوم و التكنولوجيا و الهندسة و الرياضيات، و بمعزل عن الآداب و الفنون، معيبة حتى في أساسها، لأنها تتعامل مع الاقتصاد و كأنه معادلة. فوفقا لهذا المنطق، يتحول خلق فرص العمل إلى مسألة تعريض البشر لفرص يمكن تحديدها، و يصبح النمو الاقتصادي متوقفا على زيادة المخزون من البشر أو رأس المال المادي، مع استغلال التقدم التكنولوجي  في نفس الحين. و هي في الحقيقة رؤية مظلمة للاقتصاد الحديث  و مخطط كئيب للمستقبل(55).     
________________________________________
53- جيل دولوز و فيليكس غاتاري - نفس المرجع ص:22 
- Denis Guedj : Le théorème du perroquet -Edition du Seuil    - 54
Paris- 1998.                                                               
Edmund S.Phelps: Mass Flourishing-How Grassroots innova-55 created jobs, challenge and change- Audio book-Brill 
 Audio Publisher- 2014.    ance

و يمضي في تحليله العميق إلى أن الأفكار المبدعة كما الاقتصادات الأكثر إبداعا في التاريخ، في المملكة المتحدة و الولايات المتحدة في زمن يرجع إلى 1820، وألمانيا و فرنسا في وقت لاحق من القرن 19، نشأت إلى حد كبير، بفعل دينامية البشر،مما يكذّب الاستنتاج بأن كل الاقتصادات تحتاج إلى توسيع نطاق التعليم الذي يرتكز على العلوم و التكنولوجيا و الهندسة و الرياضيات، لأن أغلب البلدان المتقدمة التي تعاني من الركود، لها بالفعل القدر الكافي في هذا المجال.
   و أما الذي تفتقر إليه هذه الإقتصادات، فهو روح الإبداع، فأسواق العمل لا تحتاج إلى مزيد الخبرات الفنية فحسب، بل تحتاج أيضا إلى أعداد متزايدة من المهارات الناعمة(Soft skills) مثل القدرة على التفكير التخيّلي (the ability to think imaginatively)، و ابتكار الحلول الخلاقة للتحديات المعقدة (to develop creative solutions to complex challenges) (56).
    و يخلص هذا الخبير اللامع إلى أن الخطوة الأولى الضرورية لتجاوز كآبة المستقبل الذي يلوح في الأفق، هي إعادة الدراسات الإنسانية و الأدبية إلى المناهج الجامعية. و ان هذا التعرّض للأدب والفلسفة و التاريخ، سوف يلهم الشباب و يدفعهم إلى السعي إلى حياة خصبة ثرية، حياة تتضمن تقديم إسهامات خلاّقة و مبدعة للمجتمع. و الواقع أن هذا النوع من الدراسة لن يزوّد الشباب بمجموعة من المهارات الضيقة، بل سيعمل على تشكيل تصوراتهم و مفاهيمهم و طموحاتهم وقدراتهم بطرق جديدة و معزّزة (57).
   و اليوم يقودDavid Edwards ، المهندس الكيميائي و صاحب أعمال رائدة في الرياضيات التطبيقية، الذي طوّر بروتوكولات أدوية جديدة لمعالجة الأمراض المعدية، و الروائي أيضا، الفرنسي - الأمريكي، و الذي يتوزع عمله بين باريس و بوسطن، تجربة رائدة تخترق الحدود بين العلم و الفن و الفلسفة،  إذ  كما  يشتغل  مع
_________________________
- Edmund S. Phelps : op. cit.-56
- Edmund S. Phelps : op. cit.-57

العلماء، يكتب و يبدع و يخترع بالاشتراك مع فنانين، و تجربته في الاشتراك في العلم مع الروائي الأمريكيJay Cantour  و المصوّرDaniel Faust ، تثمر نتائج مبهرة، و باتت موضوع إغراء للاقتداء بها في أوساط معرفية عديدة عبر العالم، و هو القائل أن انبثاق الابداع إنما يكون على حدود ما يتفق على أنه علم أو فن، و أن اللقاء بين الفنانين و العلماء، يحقق إطارا خياليا رائعا للابتكار العلمي و الإبداع الفني  في نفس الوقت، بل و الكشف عن الأسس الفلسفية للتجارب (58).
    و ليست حالة David Edwards حالة خاصة، ليس لها امتداد، فها هو Antonio Damasio، أستاذ علوم الأعصاب و علم الدماغ و علم النفس، بجامعة كاليفورنيا الجنوبية، و الذي يعتبره الكثيرون عالم أعصاب - فيلسوفا ( و هو روائي أيضا !)، يؤكد أن المناهج الأكثر فعالية في العلاج هي التي تراهن على قدرات الجسم على الاستشفاء الذاتي (أو العلاج الذاتي). و أن حلّ الاضطرابات يمر عبر التناغم بين الدماغ العاطفي و الدماغ المعرفي و فيزيولوجية الجسد (59).  و يذهب إلى أن "خطأ" ديكارت، كان هو فصله الثنائي بين الفكر و الجسد، بين العقلانية و العاطفة أو الوجدان (60)، و اقرار واضح بأهمية الموسيقى و الشعر و المسرح ... جنبا إلى جنب مع العلم التجريبي، و بأن لا سرد غير شاعري للواقع قادر على أن يكون مكتملا، و بأن التخصص الفائق يكسر النسيج المعقد للواقع، و إعطاء الأولوية للقابل للتكميم يخفي الوقائع الوجدانية للكائنات الإنسانية. و نمط معرفتنا المجزأ ينتج جهالات شمولية، و نمط تفكيرنا المعاق يؤدي إلى أفعال معاقة. و إلى هذا تنضاف قيود الاختزالية التي تختزل معرفة الوحدات المركبة في عناصرها المفترضة بسيطة، التي
________________________________________
- David Edwards : Art science : creativity : in the post Google   -58
 Génération - Harvard University Press - 2008.
- Antonio Damasio : Spinoza avait raison : Joie et tristesse, l    -59
Cerveau des émotions - Paris - Odile Jacob - 2003.
-Antonio Damasio : L’erreur de Descartes : La raison des     -   -60
 -émotions - Paris - Odile Jacob - 1995.

تكوّنها. و الثنائية التي تضع صحيح/ خطأ ما هو إما صحيح جزئيا أو خاطئ جزئيا، أو صحيح و خاطئ في نفس الوقت. و السببية الخطية التي تجهل الحلقات الدائرية. و المانوية التي لا ترى غير التعارض بين الخير و الشر (61).
   إنها كلها ردود فعل و أشكال مقاومة ضد "الاقتصاد السياسي" للحقيقة بالمجتمعات الغربية، و الذي يتميز بخمس سمات ذات أهمية من الناحية التاريخية، الأولى هي ان الحقيقة مقصورة على شكل الخطاب العلمي، و محصورة في المؤسسات التي تنتج هذا الخطاب العلمي، و الثانية هي أن الحقيقة [كما يتم فرضها] هي موضوع نشر و استهلاك، فهي تتداول عبر أجهزة التربية أو الإعلام. و الثالثة هي أن الحقيقة خاضعة لنوع من التحريض الاقتصادي و السياسي الدائم (هناك حاجة إلى الحقيقة سواء من أجل الانتاج الاقتصادي أو من أجل ممارسة السلطة السياسية). و الرابعة هي أن الحقيقة يتم إنتاجها و نقلها تحت المراقبة المهيمنة لبعض الأجهزة السياسية أو الاقتصادية الكبرى (الجامعة، الجيش، الكتابة، وسائل الاتصال الجماهيري...). و الخامسة هي أن الحقيقة هي مدار كل نقاش سياسي و صراع اجتماعي (62). أو لنقل، إنها المقاومة ضد "المعرفة" في قبضة "السلطة" ، منظور إليها بشكل سيئ، ومقومة بأقل من قيمتها، منفصلة بعضها عن بعض، مما يجعل كل الأزمات الإنسانية عبر العالم، هي في نفس الوقت أزمات معرفية، فنسق معارفنا كما يتم طبعه فينا و غرسه في تفكيرنا، يقود إلى أشكال جهل مهمة (63).
  لنتأمل و نتفحص مثلا ما الذي ينص الكتاب الأبيض (White papers)، و هو وثائق من إصدار الحكومة البريطانية، تعلن فيها مستقبل سياسة بشأن معين، ففي الفقرات الأولى منه (الكتاب الأبيض) و الذي أصدرته عام 2003 عن مستقبل التعليم
________________________________________
-Edgar Morin : La voie - Pour Le futur de L’humanité - op.cit     -61
 p :  240.
62- ميشيل فوكو: في حوار أجري معه نشر بمجلة L’Arc عدد :70 - 1977.
- Edgar Morin : La voie - Pour Le futur de L’humanité - op.cit    -63
p :239.


العالي، تقرر أن الهدف الرئيسي من الشهادة الجامعية هو تلبية احتياجات الاقتصاد البريطاني، و ذلك بتدريب الشبان من الطلاب على أن يصبحوا علماء و مهندسين يقدمون أفكارا و رؤى قابلة للتطبيق التكنولوجي، و أي تقدم في هذا اتجاه هذه الأهداف، سيتيح للعالم الشاب أن يسمع بأذنيه تلك العبارة الهادئة الهامة في نهاية يوم من أيام العمل :"أحسنت" (64)، و هي العبارة التي لا تقتضي كثير حفر و تفكيك لفضح كونها تعني: "أحسنت أن كنت "عاملا" فائق التخصص، جاهلا، طيّعا، قابلا ل "الاستعمال" حسب حاجة محتكري الموارد و ماسكي زمام السلطة، محروما من قدرات إحساس، تجعلك تشعر ببؤس حالك لحرمانك من "دروس" في الآداب أو الفنون، و من مهارات عقلية، أو من بنية معرفية متطورة، تمكنك من طرح السؤال عن شرطك، لحرمانك من "دروس" في الفلسفة (بمعناها الجديد)". 
  و مما له الكثير من المعنى- بالنسبة لعملنا- كون الذين "دبّجوا" هذا "الكتاب الأبيض" ( وهو شديد السواد في الواقع) ببريطانيا، و الذين يدبجون نظيرا له تماما أو أبشع، بالمجتمعات المسماة حديثة، و حداثية و ما بعد حداثية و فائقتها !! ،أي الطبقة السائدة بتلك المجتمعات بلغة أكثر وضوحا، لا تراهن على "المهارة الفائقة الشبيهة بالسماجة التي لا يتحملها أحد" (65) بتعبير الفيلسوف الصيني ابن القرن الثالث قبل الميلاد، لاَوْتْسُو، إلا في التعليم العمومي، بعد أن عزلت أبناءها في مؤسسات خصوصية يحتل فيها تعليم و تعلّم الفنون و الفلسفة موقعا مركزيا، و توسع خيالهم و مخيالهم، لاحتلال مواقع آبائهم، و المضي بها إلى الأبعد و الأقصى ! ، و من مهارات عقلية، ضامنة للتحكم في من يفتقر إليها، بل حرمانه منها، عبر تجزيء المعرفة المقدمة له، و استدخال تعسف في فهمه لها، يجعله ينظر إليها منفصلة، و محاصرته ضمن الدائرة الضيقة (الخانقة) للتركيز  على "الوظائف" ، على  حساب  " المفاهيم "
_____
- Jerome Kagan : The three Cultures - op.cit- p :315.-64
- Lao Tseu: in Bodde, A.: Chinese Thought, Society and science-65
  - Honolulu: University of Hawaii press- 1991-p:257.

و "الإحساسات" ،في الوقت الذي لا تستقيم الأولى إلا بالثانيتين، عدا ضمن استراتيجية / دسائسية / إقناعية سرية بربرية باردة [جديدة] يتم تجليدها (من الجليد)، بهيمنة الحساب و الكمي و التقني و الربح، على المجتمعات و الحيوات الإنسانية (66)، والحال أن المفاهيم و الاحساسات و الوظائف تصبح في أخر المطاف غير محسومة، في الوقت نفسه الذي تصبح فيه الفلسفة و الفن و العلم غير قابلة للتمايز، و كأنها كانت تتقاسم الظل نفسه الذي يمتد عبر طبيعتها المختلفة، و لا يكفّ عن مرافقتها (67).
   و أما بالمجتمعات التقليدية، حيث السلطان (le pouvoir) التقليدي العتيق، المناقض بطبيعته للجمالي و الفني، و المرادف لاغتيال العقل، فليس من العسير رسم تقاطيع المشهد، و تصور حلكة "الكتب السوداء" ! التي يفرضها "خرائط هاويات" للتعليم بكل "دروسه" كي لا يزهر.
___
- Edgar Morin : La voie - Pour Le futur de L’humanité - op.cit   -66 p : 44.
67- جيل دولوز و فيليكس غاتاري: ماهي الفلسفة ؟ - مذكور سابقا - ص:223.



  • مـراجــع العــمـــل:

  • - Pierre Bourdieu et Jean Claude Passeron : La reproduction- Eléments pour une théorie du système d’enseignement - Les édition de Minuit- 1970.
  • - Edgar Morin : La voie - Pour l’avenir de l’humanité -Librairie Arthéme Fayard / Pluriel -2012.
  • - Karl Popper : La quête inachevée - Paris - Presses Pocket. 1981.
  • -Karl Popper : Conjectures et réfutations - connaissance du savoir scientifique - Paris - Fayot- 1985.
  • - Claude Bernard : Principes de médecine expérimentale-1ère édition- Emile Martinet Editeur-1972.
  • - Hewiit Rachel: Eyes to the blind: Telescopes, théolodites and failing vision in William Wordsworth s landscape poetry- Journal of science and literature- 5-23-2007.
  • - Levine George: One culture: science and literature - in: One culture, Madison, University of Wisconsin Press- 1989.
  • - Jerome Kagan: The three cultures: Natural science, social science and humanities in the 21th century- Cambridge University Press- K.K.-2004.
  • - Denis Huisman: Socrate sur Internet - Pour une philosophie "médiatique"- Edition Fallois - Paris 1997.
  • - Glens, S. Alikenhead: Science for everyday life- Evidence based practice- Teachers college Press- Canada-2005.
  • - Knight, B.: Intelligence and interrogation - The identity of English students- in: Arts and humanities in higher education - Ed. Folio-1992. 
  • - Friedrich Nietzsche : Considérations inactuelles- Œuvres complètes- T3 - Schopenhauer éducateur- Ed. Folio- 1992.  
  • - Hanna Arendt : La crise de la culture- Editions Gallimard- Collection : Folio)N 113(-1989.
  • - Giordan, A. and Pellaud, F.: The state of science teaching- in : The challenge of science education - council of Europe - 1999.
  • - Lemk, J.L.: Talking science: Language, learning and values- Ablex Publishing Corporation- Norwood, New Jersey- 1990.
  • - David Edwards: Creating things that matter- The art and science of innovation that last- Henri Holt and co. Publisher-3018.
  • - Giles Deleuze : La pensée musique- Editions : Centre de documentation de la musique contemporaine- Paris- 2001.
  • - Denis Guedj : Le théorème du perroquet- Edition du Seuil- 1998. 
  • - Edmund S. Phelps : Mass Flourishing- How Grassroots innovation created jobs, challenge and change -Audio book- brilliance Audio Publisher-2014.
  • - David Edwards: Art science: Creating in the post-Google generation- Harvard University Press- 2008.
  • -Antonio Damasio: Spinoza avait raison: Joie et tristesse, le cerveau des émotions- Paris- Odile Jacob- 2003.
  • -Antonio Damasio : L erreur de Descartes : La raison de émotions - Paris Odile Jacob-1995.
  • -Lao Tseu: In: Bodde, A.: Chinese Thought, society and science- Honolulu: University of Hawaii Press-1991.
 
  • - باللغة العربية:
  • -جيل دولوز و فيليكس غاتاري: ما هي الفلسفة؟ -ترجمة مطاع صفدي -مركز الإنماء القومي- المركز الثقافي العربي- الطبعة الأولى- !- 1997.
  • -ديرار عبد السلام : الفلسفة درسا  و تهديد المزالق- في روح الفلسفة بمعناها الجديد و مكر المؤسسة- مجلة علوم التربية(مغربية) -العدد: 53- ص ص:59-81. 


♡ إدعمنا بمشارك المنشور مع المهتمين . شكرا
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -