الحجاب والواقع؛ قراءة في اعتبار المآل
الأستاذ الباحث: محسن اعريوة
ولعلّ هذا الحاضر المعيش أنصف علي الوردي فيما ذهب إليه في مقدمة كتابه "وُعّاظ السلاطين" أنّ الانحرافَ الجنسيَّ يزدادُ بين الناس كلّما اشتدّت عندهم عادة الحجاب والفصل بين الجنسين.. فسَخِروا منه وأُلِّفت كتبٌ ومقالات في الرّد عليه، وجاءوا بأمثلة تدلّ على وجود الانحراف الجنسي في المجتمعات التي لا حجاب فيها.. إلا أن الوردي لم يقل بأن الانحراف الجنسي معدوم في البلاد التي لا حجاب فيها، وإنما قال: بأن نسبته تقل في تلك البلاد كما صرّح بذلك في كتابه "مهزلة العقل البشري" ويقول: دأب وُعّاظنا على تحبيذ الحجاب وحجر المرأة، فنشأ من ذلك عادة الانحراف الجنسي في الرجل والمرأة معاً.. وقد دلّت القرائن على أن المجتمع الذي يشتد فيه حجاب المرأة يكثر فيه، في نفس الوقت، الانحراف الجنسي من لواط وسحاق وما أشبه.. ظنّ وُعّاظنا أنهم يستطيعون أن يمنعوا الانحراف الجنسي بواسطة الكلام والنصيحة وحدها. غير دارين بأن الانحراف طبيعة اجتماعية لا بد من ظهورها في كل بلد يحجب النساء فيه عن الرجال" ص 8.
فالإشكال الحاصل لا يكمن في الحجاب وهذا لا مراء فيه، وإنّما في الإيغال في تحديده وتحديد أماكنه، وهذا ما دعى إلى الخلاف الواسع بين الفقهاء قديمهم وحديثهم، وسال في ذلك سيولا من الحبر... وهو نفس ما ذهبت إليه الباحثة الاجتماعية المغربية فاطمة المرنيسي في كتابها "ما وراء الحجاب؛ الجنس كهندسة اجتماعية" بعد الدّراسة الميدانية التي قامت بها؛ وهو صحيح، وكما يقول العرب: وراء الأكمة ما وراءها!
إنّ الخطاب الضيق الذي لا يجعل نتائج الأمور نصب عينيه، لا يؤدي وظيفته.. لأنّ اعتبار المآل أمرٌ ضروريٌّ للمجتهد في صياغة الأحكام كما صرّح بذلك الإمام الشاطبي –رحمه الله- في موافقاته، كي لا يفسد حيث أراد الإصلاح. فالتّزمت المُبالَغ فيه، والغلو في السلوك والمنهج لا يُنتج إلا التسيّب والفوضى فيهما معاً.. وإن كانت هذه الفوضى غير مُعلنة. فالكثير من الحقائق لا تبثّ في واقعنا خشية الناس وأقوالهم، لذا نجد في المجتمع المغربي عدة حالات –على سبيل المثال لا الحصر- أن إنسانة متديّنة نشأت في بيئة محافظة انتهى بها المطاف إلى الإلحاد -والعياذ بالله-؟ وهناك دراسات وأبحاث ميدانية في هذا المجال كشفت عن مدى تأثير انغلاق الأسر، لأن هذا التّناقض؛ تناقض الخطاب وتناقض السلوك داخل المجتمعات الإسلامية لا يفرز إلا جيلاً متناقضا؛ يدعو للحوار وفي نفس الوقت ينبذ الطرف الآخر؛ الذي يُعتبر جزءً لا يتجزّأ من منظومة المجتمع.. ويُساعد على هذا وذاك أولائك العلماء والفقهاء والأنتلجنسيا (النخبة المثقفة) الذين يضيّقون الحياة ويقزّمونها؛ ليست حياتهم وإنما حياة الجماهير.. فما قيمة الحجاب الظاهري إذن؛ إذا كان الباطنُ مكشوفاً، حجابٌ على الرّأس، وفي الأسفل "روتانا". فشوارعنا دليلٌ فاضح علىى الانفلات الأخلاقي والتّفسّخ القيمي الذي وصلت إليه المجتمعات المسلمة، حين يُصبح اللّباس الشّرعي موضة دينية ومعرّة ووصمة عار على الإسلام والمسلمين.. حيثُ يتفنّون في شكله وحياكته.. حتى يصبح أشد فتنة وأكبر بلاء.
وقس على هذا؛ أن المجتمع المتديّن المُنغلق، الذي جعل من أصول الشريعة وأحكامها أعرافاً وعوائدَ؛ سُرعان ما ينسلخ منها.. فلا قيمة للمجتمع الإسلامي المحاط بسياج أعين البشر وأقوال الشيوخ، بدل الرّاقبة الإلهية التي يعلمُ الله سبحانه وتعالى فيها خائنة الأعين وما تخفي الصدور!
لهذا فنحن في حاجة ماسة اليوم إلى خطاب ديني متكامل يُراعي الخصوصيات ويعمل في إطار المقاصد والغايات التي يتشوّف إليها الشّرع، خطابٌ يوافقُ العصر، ويقي الأمّة من طيش العلمنة والتّفسّخ ومن شر التّشدّد والاندحار والانحدار.. كي نصل إلى المجتمع الإسلامي المنشود؛ الذي يسوده الطّهر والعفاف، لا لأن النّساء فيه قد تمّ تغطيتهنّ وسترهنّ، بل لأنّ الشّرع الحكيم أمرَ باحترام المرأة وتوقيرها!
♡ إدعمنا بمشارك المنشور مع المهتمين . شكرا
مرحبا بك في بوابة علم الاجتماع
يسعدنا تلقي تعليقاتكم وسعداء بتواجدكم معنا على البوابة