شكل كتاب "نظرية التأويل: الخطاب و فائض المعنى" لبول ريكور (*)مساهمة نوعية في المجال اللغوي، و قدم فهما جديدا للتأويلية. و هو في الأصل عبارة عن أربعة مقالات عرضت كمحاضرات في جامعة تكساس (23-30 نونبر 1973) خضعت للتعديل و نشرت بالعنوان المشار إليه سلفا، عوض العنوان الأولي "الخطاب و فائض المعنى" الذي أصبح فرعا و لم يعد أصلا.
و يهدف بول ريكور من خلال هذا الكتاب إلى حل "مشكلة الفهم على صعيد نتاجات مثل القصائد و الحكايات و المقالات سواء أكانت أدبية أو فلسفية"، إضافة إلى إعادة قراءة اللغة باعتبارها خطابا، وفق مصطلحات حديثة في مجال علم اللغة، رغم أن الإشكالية - على حد تعبيره - قديمة في الأصل.
فكيف ينظر بول ريكور إلى اللغة بوصفها خطابا؟ و هل يمكن اعتبار الكتابة خطابا؟ و ما موقع الاستعارة و الرمز في الخطاب؟ و هل الخطاب يقبل التفسير أم الفهم؟
ينطلق بول ريكور من أبحاث أفلاطون، و تحديدا من محاورة "قراطيلوس" و "تياتيتوس" و "السفسطائي" ليبرز قدم المشكل، و الذي تمثل آنذاك في كون الكلمة في ذاتها ليست بصادقة أو كاذبة، لكن عند تأليف جملة مكونة من عدة كلمات، هنا يبرز مشكل الصدق و الكذب... و بهذا ارتأى ريكور إلى الحديث عن اللغة كخطاب لأن الصدق و الكذب قيمتين ترتبطان بالخطاب.
و حسب ريكور، ما جعل الخطاب إشكالية تستمر إلى اليوم، يرجع بالأساس لإنجازات علم اللغة التي اهتمت باللغة من حيث هي بنية و نسق لا من حيث هي مستعملة .
و لكي يعيد ريكور الاعتبار للغة بوصفها خطابا، ينطلق من النموذج البنيوي، و تحديدا من دي سوسير و تمييزه بين اللغة بوصفها لسانا؛ أي أنها تشكل نظاما و نسقا، و بالتالي فهي جوهرية و موضوع علم واحد، و اللغة بوصفها كلاما؛ أي أنها تتميز بالتعدد و التغير، و بالتالي فهي عرضية، و هي موضوع علوم متعددة.<br>و من هنا، فدي سوسير لم يتحدث عن اللغة بوصفها خطابا. "و بعبارة وجيزة لم تعد اللغة تعامل بوصفها "صورة حياتية" - كما يعبر فتغنشتاين - بل صارت نظاما مكتفيا بذاته ذا علاقات داخلية فقط. و عند هذه النقطة بالضبط تختفي وظيفة اللغة باعتبارها خطابا".
و ليعلل ريكور دعوته إلى التعامل مع اللغة بوصفها خطابا، يميز بين علم الدلالة و السيمياء، على اعتبار أن اللغة تعتمد على وحدتين: العلامات و الجمل، و يؤكد أن الجملة هي وحدات، و تتكون من الكلمات، لكن لا يمكن تجزيئها... كما أن الجملة تتكون من علامات و لكنها ليست علامة، و بهذا فالسيمياء هو العلم الذي يدرس العلامات و يعتبره ريكور علما شكليا صوريا و يعتمد على تجزئة اللغة إلى أجزائها المكونة. بينما علم الدلالة هو علم الجملة و معني مباشرة بمفهوم المعنى، و الانصراف الكلي إلى العمليات التكاملية للغة في تداخلها العفوي، و يبرر ريكور هذا التمييز بكونه يشكل مفتاح اللغة بأسرها.
و يؤكد ريكور من جهة أخرى أن الخطاب بوصفه واقعة، يمثل الواقعة اللغوية، بينما النظام افتراضي فقط، و الرسالة هي التي تضفي الفعلية على اللغة، ف"فعل الخطاب ليس مجرد لحظة منفلتة أو زائلة. بل إن في وسعنا إعادة صياغته بكلمات أخرى في اللغة نفسها أو ترجمته إلى لغة أخرى"، و الرسالة تحافظ على هويتها الدلالية رغم هذا التنقل بين العبارات و اللغات...
كما أن الخطاب يأخذ بعدا إسناديا، فالجملة لها محمول و مسند، "و كما قال بنفنست فإن اللغة قد تستغني عن الفاعل أو المبتدأ أو المفعول و غير ذلك من المقولات اللغوية و لكنها لن تستغني أبدا عن المسند".
و يؤكد ريكور أن تحقق الخطاب كله بوصفه واقعة، يؤدي إلى فهم الخطاب كله بوصفه معنى، و يتحقق هذا الأخير عبر التأليف بين وظيفتين، و هما: تحقيق الهوية و الإسناد. كما أن المعنى يطرح جدلا يتمثل في ما يلي: المعنى هو ما يعنيه المتكلم؛ أي ما يقصد أن يقوله، و المعنى ما تعنيه الجملة؛ أي ما ينتج عن الاقتران بين وظيفة تحديد الهوية و وظيفة الإسناد، و بهذا تصبح الواقعة هي شخص ما يتكلم. و التأويلية تقوم على الواقعة الكلامية، و هذا هو التعريف الصحيح للوظيفة التأويلية.
ينتقل ريكور إلى المستوى الثاني المتعلق بالكلام و الكتابة، لأن التأويلية ترتبط بمشكلة الكتابة، و بالتالي يبرز ريكور شروط الانتقال من الكلام إلى الكتابة، فالنص المكتوب بدوره تحضر فيه جدلية الواقعة و المعنى، ف"الكتابة هي التجلي الكامل للخطاب".
و لكي لا تفهم الكتابة بوصفها بعيدة عن الواقع أو لا تمثل الواقعة اللغوية، يميز ريكور بين الدلالة في الأعمال الأدبية و الدلالة في الأعمال العلمية، فالأولى يحضر فيها فائض المعنى، في حين أن الثانية تفهم فهما حرفيا.
و استرسالا في فهم التأويلية بالإضافة إلى الإشارة للخطاب و فائض المعنى، يشير ريكور إلى مفهوم آخر و هو الرمز، على اعتبار أن هذا الأخير ينطوي على شيء لا- دلالي بقدر ما فيه من شيء دلالي، و بالتالي فهذا المعنى المزدوج يقود إلى الانفتاح عن مفهوم آخر و هو الاستعارة، و يحيلنا تعريف الاستعارة إلى كونها تتضمن معنيين: معنى صريح و معنى ضمني، في إشارة إلى اللغة الإدراكية و اللغة الانفعالية. و في نقد ريكور للتصورات التقليدية يؤكد أن "الاستعارة تهتم بعلم دلالة الجملة، قبل أن تهتم بعلم دلالة الكلمة المفردة. و مادامت الاستعارة لا تحظى بالمغزى إلا في قول، فهي إذا ظاهرة إسناد، لا تسمية". و يخلص في الأخير إلى أن الاستعارة هي حاصل التوتر بين مفردتين في قول استعاري، أو بعبارة أخرى التوتر الحاصل بين تأويلين متعارضين للقول، فهذا الصراع هو الذي يغذي الاستعارة. و من هنا فالرمز لا يمكن أن يتجلى إلا من خلال الاستعارة...
و للوقوف على السمات الأساسية للتأويلية، يعرض ريكور في آخر نقطة يعالجها في الكتاب لمسألة التفسير و الفهم، و على اعتبار "أن الفهم يمثل للقراءة ما تمثله واقعة الخطاب بالنسبة لنطق الخطاب، و أن التفسير يمثل للقراءة ما يمثله الاستقلال النصي و اللفظي للمعنى الموضوعي للخطاب"، و هناك تداخل بين الفهم و التفسير، فالأول مجال التخمين و الثاني مجال التصديق.
و باختصار - فحسب ريكور- هناك أكثر من طريقة لتفسير النص، لكن هذا لا يعني أن التأويلات متساوية.
عموما، فنظرية التأويل عند بول ريكور استثمرت الاتجاهات الحديثة كالبنيوية، الوجودية، التأويلية، الماركسية، نظرية الثقافة و التفكيك و التحليل اللغوي و نظريات اللغة و أنثربولوجيا الدين...، و لا تتمثل الاستفادة في التقليد الأعمى لهذه الاتجاهات و محاولة التوفيق بينها، بل تمثلت الاستفادة في إخضاعها للنقد، و ما عرضناه عن البنيوية في بداية هذا التقرير خير دليل على ذلك. كما استفاد ريكور أيضا من أبحاث كل من أفلاطون (لقد أشرنا إلى بعض مؤلفاته سابقا) و أرسطو من خلال وقوفه على تعريف الاستعارة...
و تبرز قيمة عمل بول ريكور في نقله لمفهوم التأويل من مجال اللاهوت و الدراسات الخاصة بقراءة الكتب المقدسة إلى علم القراءة الذي لا يخرج عن الإطار العام لعلم اللغة.
و ما يعاب على نظرية التأويل لبول ريكور كونها أهملت المؤلف أو الكاتب، و أعطت الأولوية للقارئ أو المتلقي، كما ألغت الجانب النفسي و التاريخي في فهم النصوص، فالتأويلية لا تهتم بما في نية الكاتب أو ما يود أن يقوله، بقدر ما تهتم بالخطاب في صيغته الدلالية، معتمدة بذلك شبكة مفاهيمية مثل ما رأينا سابقا ( الرمز، الاستعارة...). و بناءا على هذا، فسواء رواد مدرسة التحليل النفسي أو رواد المدرسة الوضعية المعاصرة سيعارضون ريكور و يرفضون التأويلية و المنهج التأويلي، و ذلك لأن المدرسة الأولى تركز على البنية اللاشعورية في إنتاج الخطاب، بينما المدرسة الثانية تعتمد التفسير في شقه العلمي المحض لفهم الظواهر الإنسانية سوء كانت ظواهرا أدبية أو علمية... و من هنا نقول أن ما يعيبه ريكور على البنيويين سقط فيه هو الآخر، فرفضه الانغلاق على البنية لأنه يؤدي إلى التقوقع، أدى به للقول بالانفتاح التأويلي الذي سيؤول إلى عدد لا حصر له من التفسيرات و الفهم للنصوص، لكن هذا يمكن أن ينظر إليه كنقطة إيجابية في المجال الأدبي، فالاختلاف في التأويل هو إبداع في حد ذاته... و ما الأدب في الأخير إلا أشكالا متعددة من الإبداع، أما إذا خرج التأويل عن هذا السياق فإنه يمكن أن يؤدي إلى ضياع الرسالة...
* * * * *
قدم ريكور في كتاباته المختلفة تطويراً مهماً على مفهوم (الهيرمونيطيقا) أو التأويل بحسب ما تترجم الى العربية، فبعد أن كانت محصورة باللاهوت والدراسات الخاصة بقراءة الكتب المقدسة، أصبحت نظرية في علم القراءة يمكن إخضاعها لقراءة النصوص بأنواعها كافة..
ان الخطاب يتجاوز النص، وذلك من حيث هو واقعة أو قضية أو خبر، أي من حيث هو وظيفة إسناد متداخلة ومتفاعلة بوظيفة أي هو شيء مجرد، يعتمد على كل عيني ملموس يمثل الوحدة الجدلية بين الواقعة والمعنى في الجملة، وهكذا يمكن اختصار الخطاب في أنه إسناد أو محمول (Predicate) فاللغة كما يقول بنفنست قد تستغني عن الفاعل أو المبتدأ أو المفعول وغير ذلك من المقولات اللغوية ولكنها لن تستغني أبداً عن المسند.
فالخطاب وفقاً لذلك ذو بنية خاصة به، ليست هي بنية التحليل البنيوي، أي بنية الوحدات المنفصلة المعزولة عن بعضها، بل بنية التحليل التأليفي، أي التواشج والتفاعل بين وظيفتي التحديد والإسناد في الجملة الواحدة، وعلى هذا فإن الخطاب يمكن أن يحيل الى ذاته.
لكن ما الذي يضيفه ريكور في معنى التأويل، انه يرى أن التأويلية كنظرية تظلّ محصورة في إطار نزعة نفسانية، حتى وإن لبست لبوس حوار بين الذاتيات المتفاعلة، لذلك ففهم نصّ ما، إذاً، هو حالة خاصة من الموقف الحواري الذي يستجيب فيه شخص ما لشخص آخر سواه.
بعدها ينتقل ريكور للبحث في ثنائية الكلام والكتابة، فمع الكتابة بدأ الفصل والطعن والتفاوت، إذ تتجاهل الكتابة متلقيها، كما تُخفي مؤلفها، وتفصل الناس، تماماً كما تفصل الملكية مالكيها. ويساوي طغيان المعجم والنحو طغيان قوانين التبادل، كما تتمثل في النقود. بدلاً من كلمة الله، صار لدينا حكم المتعلمين وهيمنة الرهبان. إن انشقاق الجماعة الناطقة، وتقسيم التربة، وتحليل الفكر، وحكم العقائد الجامدة، كل ذلك وُلِد مع الكتابة. لذلك ربما بقينا نسمع صدى التذكر الأفلاطوني في هذا الدفاع عن الصوت حاملاً لحضور الذات، ورابطاً داخلياً للجماعة بلا مسافة ولا انفصال.
يبدو موقف ريكور هنا من الكتابة كامتداد للموقف الغربي في تفضيل الكلام على الكتابة، وهو ما رفضه دريدا الذي أعاد مركزية الكتابة وأسبقيتها في الثقافة الغربية في كتابة (الغراماتولوجيا)، لكن إذا كانت الكتابة قد ابتدأت مع الرسم، فإن لاستراتيجية الرسم وظيفة تقوم على أساس إعادة بناء أبجدية بصرية محدودة، وهذه الاستراتيجية في التقليص والتصغير تمنح أكثر من خلال تناولها للأقل. وبهذه الطريقة، يتركز جهد الرسم الأساسي في مقاومة الاتجاه التناقصي في الرؤية اليومية، وبزيادة معنى العالم بالإمساك به في شبكة علاماته المختصرة.
ان مسألة الكتابة تستحضر إشكالية خاصة تتعلق بها، وتتجلى في السؤال الأبدي، كيف يمكن لنا إعادة استحضار الماضي الثقافي على الرغم من المسافة الثقافية التي تفصلنا عنه؟ إن الرومانسيات الألمانية قامت بانعطافة درامية في هذه المشكلة حين سألت: هل في وسعنا أن نكون معاصرين لعبقريات الماضي؟ يبدو السؤال هنا راهناً لنا أيضاً نحن العرب وبالإشكالية الأزلية نفسها، كيف لنا أن نوفق بين التراث والحداثة؟
ان ريكور يجيب عن السؤال الذي طرحه على نفسه بالتساؤل مرة أخرى، كيف يُتاح للمرء أن يستعمل التعبيرات الحياتية التي ثبتتها الكتابة لكي ينقل ذاته الى حياة نفسية غريبة عنه؟
ان هذه المشكلة قد عاودت الظهور بعد تهاوي دعوى هيغل في التغلب على النزعة التاريخية عن طريق منطق الروح المطلقة. ولكن إذا لم تتوافر خلاصة للتراثات الثقافية الماضية، في كلّ يحيط بكل شيء، فتؤخذ من واحدية مكوناتها الجزئية، لذلك فتاريخية نقل هذه التراثات وتخطيها لن يمكن التغلب عليها، ذلك أن الجدل الثنائي والتملك الكلمة الأخيرة في تجريد المعرفة المطلقة.
أما الأساس الأخير الذي تقوم عليه نظريه التأويل فيقوم على ثنائية الاستعارة والرمز، فالأعمال الأدبية تهتم بتوظيف الدلالة، مقابل الأعمال العلمية التي تُفهم الدلالات فيها فهماً حرفياً. والسؤال هنا ما إذا كان فائض المعنى الذي يميّز الأعمال الأدبية جزءاً من دلالتها، أم أنه يُفهم بوصفه عنصراً خارجياً، يقول مونرو بيرد سلي إن الاستعارة هي “قصيدة مصغرة”، ومن هنا فالعلاقة بين المعنى الحرفي والمعنى المجازي أشبه بنسخة مختصرة في داخل جملة واحدة من الدلالات المعقّدة المتداخلة التي تسمّ العمل الأدبي ككل. والمقصود بالعمل الأدبي هنا هو العمل الذي ينطوي على خطاب متميّز عن أي عمل آخر ذي خطاب، ولاسيما الخطاب العلمي، بكونه يربط المعنى الصريح بعلاقة بالمعنى الضمني.
أما الاستعارات الحية فهي استعارات الابتكار التي تكون فيها الاستجابة للتنافر في الجملة توسيعاً جديداً للمعنى، وإن صحّ القول بالتأكيد أن الاستعارات المبتدعة تتحول بالتكرار الى استعارات ميتة، وفي مثل هذه الأحوال يتحول المعنى الممتد الى جزء لا يتجزأ من مادة المعجم، تسهم في تعدد معاني الألفاظ المعنية التي تتضاعف معانيها اليومية بالنتيجة. فليس في القاموس استعارات حية، وعلى هذا فالاستعارة ليست تزويقاً لفظياً للخطاب، بل لها أكثر من قيمة انفعالية، لأنها تعطينا معلومات جديدة، وبوجيز العبارة، تخبرنا الاستعارة شيئاً جديداً عن الواقع.
مرحبا بك في بوابة علم الاجتماع
يسعدنا تلقي تعليقاتكم وسعداء بتواجدكم معنا على البوابة