أخر الاخبار

قوانين التعلم في الفلسفة البرجماتية - صابر جيدوري

قوانين التعلم في الفلسفة البرجماتية - صابر جيدوري

قوانين التعلم في الفلسفة البرجماتية

هوية موثقة
صابر جيدوري

     قد يتساءل المرء، ما معنى التعلم، ومتى يحدث، ومتى نعتبر الإنسان متعلماً، وكيف نحكم على ذلك؟ أسئلة ‏كثيرة حيرت الفلاسفة وعلماء النفس والتربية الذين يُحاولون الوصول إلى إجابات دقيقة عن هذا السؤال بهدف مساعدة المعلمين على التعليم وفق الطريقة ‏التي يتعلم بها الطالب بطريقة علمية مدروسة ومضبوطة، ومن أجل تحقيق أهداف العملية التعليمية التعلمية المنشودة. ومع أنه يوحد الكثير من النظريات التي تُفسر عملية حدوث التعلم إلا إن هذا المقال لن يتعرض إلى أي منها، وسوف يكتفي بإبراز أهم قوانين التعلم من وجهة نظر الفلسفة البرجماتية، وذلك على النحو الآتي:

ما نتعلمه يجب أن نمارسه

   قبل مناقشة وتحليل هذا القانون نسأل أولاً: ما المقصود بكلمة يتعلم؟ ومتى يتم تعلم شيء ما؟ إن الإجابة عن هذين السؤالين تشير إلى أن السلوك هو علامة لأي تربية قيّمة، أي أن نتعلم يعني أن نكتسب طريقة للسلوك، ومن ثم يتم تعلم شيء ما عندما يظهر في الوقت المناسب سلوك معين، وعندما يستطيع الإنسان أن يسلك هذا السلوك. وهذا يعني أيضاً أن للتعلم حركة داخلية تجعل السلوك المتعَلم يظهر في الوقت المناسب، ولو في حالة وجود معارضة قوية له، وبالتالي إذا كان هذا هو معنى فعل يتعلم فكيف إذاً تتم عملية التعلم؟ إن الإجابة التي تقدمها البرجماتية عن هذا التساؤل تؤكد أن ما نتعلمه يجب أن نمارسه، أي أننا نتعلم الاستجابات التي نفعلها.
     ولهذا السبب يصبح التمرين الدقيق ضروري في عملية التعلم. وحتى تكون صورة هذا القانون واضحة نشير إلى أن هناك صفات قيّمة كثيرة مثل الكرم لا يمكن ممارستها بطريقة شكلية، لأنه يستحيل على المدرس أن يطلب من التلميذ الذي اعتاد البخل أن يخصص نصف ساعة بعد انتهاء اليوم الدراسي ليمارس فيها بانتظام صفة الكرم اتجاه الآخرين.
     إن صفة الكرم لا تُكتسب بهذه الطريقة، وإنما يمكن ممارسة الكرم فقط في موقف اجتماعي. وفي حالة وجود شيء في الموقف يستدعي إبراز هذه الصفة، أي لابد أن تكون استجابة الكرم متوفرة في السبب المحرك لها وفي المتعلم، أي لابد أن يشعر المتعلم بالكرم في موقف حقيقي، وذلك جزء أساسي من تجربة الكرم. هذا يوضح لنا ناحية من النواحي التي تستدعي توفر الخبرة الحقيقة في المدرسة، أي لا بد وأن تكون مدارسنا أماكن للحياة الواقعية إذا أردنا لعملية التعلم أن تتم بشكل حقيقي.

التعلم يتبع الاتجاه الذي يحدده القصد

     أثبتت الدراسات التربوية أننا لا نتعلم كل شيء نمارسه، وإنما نتعلم فقط الشيء الذي ننجح في أدائه. بعبارة أكثر دقة، إننا عندما نحاول أن نبلغ غاية معينة، وتنجح بعض مجهوداتنا في هذا السبيل ويفشل بعضها الآخر، هنا نتعلم أن نسلك الطرق التي تنجح، ونبتعد عن الطرق التي تفشل. وتجدر الإشارة إلى أن ملاحظة قصد المتعلم في غاية الأهمية عند تحديد دخول طريقة معينة للسلوك في أخلاق الشخص كميل إيجابي للعمل، أو بقائها خارجاً – كما كانت – وتصبح شيئاً يتجنب عمله.
   وهكذا إذا ما قصد شخص أن يتعلم ضربة معينة في لعبة التنس، فإنه سوف يستفيد من نواحي نجاحه ونواحي فشله على السواء. فالحركات التي توصل إلى النجاح تدخل تدريجياً – نتيجة تكرارها – في جهازه العصبي، ويصبح لديه ميل متزايد إلى ضرب الكرة بهذه الطريقة. وعلى هذا المنوال الحركات التي تؤدي إلى الفشل لن تدخل في جهازه العصبي، بل يصبح لديه ميل متزايد إلى الامتناع عن ضرب الكرة بهذه الطريقة.
     مع الإشارة إلى أنه إذا ما توفر لدى الشخص قصد قوي لدرجة تدفعه إلى التمرين على هذه الضربة، وتدفعه إلى أن يميّز بعناية النجاح من الفشل، وأن يرضى عن نجاحه ويأسف لفشله – إذا توافرت هذه الشروط فإن التعلم يأتي بطريقة آلية من النجاح والفشل على السواء، وتصبح حركة ضرب الكرة ثابتة لدرجة أن الضربة تأتي في الوقت المناسب من تلقاء نفسها، أي أن القصد إلى تعلم هذه الضربة قد أدى إلى تعلمها. بعبارة أخرى: كان تعرض الشخص – في أول الأمر – للفشل أكثر من تعرضه للنجاح، ولكنه استطاع في النهاية بسبب إصراره على قصده أن يتعلم طريقته المختارة. وعلى هذا الأساس يتبع التعلم الاتجاه الذي يحدده القصد.

 التعلم يتطلب خبرة واقعية

    إن التعليم الحقيقي يتطلب خبرة واقعية في الموقف الاجتماعي، وذلك على أمل أن تقيم هذه الخبرة فرصة لتطبيق ما تعلمه الفرد. فقد كان يُعتقد أنه إذا ما تعلم الطالب كيف يفكر في الهندسة تفكيراً أحسن من التفكير الذي اعتاده سابقاً، فإنه سوف يفكر ويستطيع أن يفكر تفكيراً أحسن في أي موقف من مواقف الحياة يستدعي تفكيراً.
    غير أن الدراسات التربوية أثبتت أن هذا الأمل السابق كان غير مفهوم ومبالغاً فيه مبالغة كبيرة، لأن التحسن الذي يدركه الإنسان في موقف من المواقف سوف يظهر في موقف آخر، إذا ما قورنت في هذا الموقف الثاني عناصر تستدعي وتظهر ما تعلمه الإنسان في الموقف الأول. فالطالب الذي تعلم الهندسة تعلماً جيداً سوف يحتاج عند دراسته للميكانيكا إلى الهندسة التي تعلمها، وقد يفكر في أن يستخدم قدرته على التفكير التي نماها في دراسته للهندسة، وذلك لأن الميكانيكا متصلة بالهندسة، وتميل إلى استخدام نوع التفكير الذي اكتسبه الطالب من دراسته لها (للهندسة).
   ولكن هذا لا ينطبق في حالة تجارة "القمح" مثلاً، فإن الطالب نفسه المتمكن من الهندسة والجاهل في شؤون "القمح" لن يجد في تجارته بهذه المادة حاجة إلى الهندسة التي تعلمها، ولا إلى استخدام نوع التفكير الذي نماه من دراسته لها. إنه من الممكن بطبيعة الحال أن يقف وقفة تفكير يختبر فيها فروضه، والاحتمال بأن الهندسة التي تعلمها سوف تساعده في التفكير في الموقف الجديد، متوقف بصفة جزئية على الطريقة التي تعلم أن يفكر بها في الهندسة، فإذا كان قد تعلم أن يعمم تعميماً واسعاً، فإنه من المحتمل أن يطبق معلوماته السابقة واستجاباتها في الموقف الجديد، ولكن العامل الرئيس المهم في تطبيق المعلومات السابقة هو وضوح درجة الشبه بين الموقف القديم والموقف الجديد، ففي مثل هذه الظروف يُحتمل احتمالاً كبيراً أن يتم انتقال أثر التدريب كما يسمى عادة.
   ولكن لتحقيق انتقال أثر التدريب بأحسن صورة يجب أن يسمح الموقف الجديد باستخدام القدرة المكتسبة، ويجب بالإضافة إلى ذلك أن يكون في الموقف الجديد شيء يظهر أو يستدعي استخدام هذه القدرة. من الواضح إذاً أنه كلما زادت درجة التشابه بين الموقف القديم والموقف الجديد، كان احتمال انتقال أثر التدريب أكبر، وكانت الحاجة إلى المعلومات القديمة وإلى إظهارها أكبر. ولهذا السبب ترغب البرجماتية في أن تكون المدرسة شبيهة بالحياة، لأنه كلما زادت درجة التشابه بين الحياة في المدرسة والحياة خارجها، كان هذا أحسن فيما يتصل باحتمال انتقال أثر التعلم. ولهذا تؤكد البرجماتية ضرورة أن توفر المدرسة خبرات مماثلة لأحسن الخبرات الموجودة خارجها. وعلى ذلك المطلب الأساسي يتلخص في ضرورة توفير المدرسة للخبرات الواقعية الحقيقية حتى تحقق أحسن أنواع التعلم.

 التعلم عن طريق الترابط

    من المعروف أنه عندما يعرف الإنسان شيئين في وقت واحد، يستدعي التفكير في أحدهما التفكير في الآخر. وفي مثل هذه الحالة كلما كانت الصلة بين هذين الشيئين أكثر قسوة، سواء أكانت هذه الصلة سارة أم غير سارة، زاد احتمال التفكير في أحد هذين الشيئين عند تذكر الشيء الآخر. والدليل الواضح في هذا المجال التجربة التي قدمها "بافلوف Baflof" التي تتلخص في تقديم قطعة من اللحم للكلب، يسيل لعابه لها، وأثناء ذلك كان يدق الجرس بشدة، وقد كرر "بافلوف" ذلك يوماً بعد يوم، وفي كل يوم كان اللعاب يسيل، وفي النهاية قام بدق الجرس دون تقديم قطعة اللحم، فكان ذلك كافياً لإسالة اللعاب.

     وتفسير ما قام به "بافلوف" هو أنه نتيجة لعملية الترابط أصبحت استجابة سيل اللعاب التي كانت ترتبط أصلاً بمثير طبيعي هو (رائحة اللحم) تتبع مثيراً مكتسباً، وهو (دق الجرس) الذي لم يكن له في الأصل هذا التأثير. هذا الانتقال الترابطي أو (الفعل الشرطي) كما يسمى، مسؤول عن أنواع من السلوك أكثر مما يعرف معظم الناس. فمعظم الاستجابات الانفعالية التي تصدر عن الأشخاص تدخل ضمن هذا التفسير، فنجد مثلاً أن الطبيعة توجد الخوف في الإنسان كطريقة من طرق الاستجابة، ويبدو أن خوفنا من الأشياء التي نخافها حقاً، يتم بصفة شبه كلية نتيجة هذا الترابط، فنحن نعلم عن طريق الترابط مخاوفنا الخاصة، وأن ما نميل إليه أو نعرض عنه ينتج غالباً عن هذا الطريق.

 لا نتعلم شيئاً واحداً في اللحظة الواحدة

    تؤكد البرجماتية أننا لا نتعلم شيئاً واحداً في الوقت الواحد، ولكننا نتعلم دائماً أشياء كثيرة في الوقت نفسه. فكل شيء نعمل فيه، أياً كان نوعه، له جوانب مختلفة، ويرتبط مع كل جانب من هذه الجوانب اتجاه عاطفي، وإن اختلفت درجته زيادة أو نقصاناً. ولهذا تتم عمليات تعلم كثيرة في وقت واحد، فالطالب في المدرسة عندما يحفظ قطعة من الشعر، يرتبط اتجاه ما فيه حسن أو غير حسن بالمجهود الذي يبذله، وبقطعة الشعر، فضلاً عن الاستجابات الأخرى المصاحبة التي تؤثر إيجابياً أو سلبياً في الكثير من الأشياء الأخرى المتصلة بقطعة الشعر، منها مثلاً: اتجاهه نحو الشعر بوجه عام، أو نحو المدرس المشرف على حفظه للشعر، أو نحو المدرسة التي تتم فيها هذه الأشياء، أو نحو نفسه وقدرته في هذا الميدان، أو نحو نظرته الجمالية والفكرية في الحياة... الخ. وهذا يُعدّ مجرد عينة لأنواع التعلم المختلفة التي تتم في وقت واحد.
  •    ومن ثَمَّ، فإنه من خلال هذه الاتجاهات الملازمة وأنواع التعلم المصاحبة لها، تتكون في الوقت المناسب اتجاهات الإنسان التي تنمو وتقوى لدرجة تجعلها تتحكم في نظرته العاطفية والإرادية، وترى أن أهم هذه الاتجاهات يتكون عموماً في الفترة المبكرة من حياة الإنسان (وهذا ما يبين أهمية مدارس الحضانة ورياض الأطفال)، مع الأخذ في الاعتبار أن كل الفترة الدراسية ذات أثر قوي في هذا الميدان، وأن عمليات تعلم كثيرة تتم دائماً في وقت واحد، إذ تقوم عملية الترابط باستمرار بتكوين خصائص الفرد العاطفية والإرادية.

  • مراجع المقال
  • - ديوي، جون (1954). الخبرة والتربية، ترجمة محمد رفعت رمضان ونجيب إسكندر، القاهرة، مكتبة الانجلو المصرية
  • - فينكس، فيليب (1965). فلسفة التربية، ترجمة محمد لبيب النجيحي، القاهرة، دار النهضة العربية.


تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -