أخر الاخبار

مدلولات النسب والشرف عند ابن خلدون

 مدلولات النسب والشرف عند ابن خلدون

مدلولات النسب والشرف عند ابن خلدون

الدكتور بشير طلحة  
جامعة عمار ثليجي بالاغواط – الجزائر 

مقدمة:

 يمتاز الخطاب الخلدوني بصلابة بنائه الداخلي، ووحدة تصوره ضمن أطر مفاهيمية متجانسة ، مما يجعل أي تفسير أو وقوف عند أحد المفاهيم أمرا بالغ الصعوبة إذا ما أخرج عن سياقه العام ، وهذا لا يعني أن الخطاب الخلدوني تجاوز المفاهيم المستعملة في وقته مبتكرا بذلك مفاهيم جديدة وإنما كانت استعمالاته في إطار خلق تصور نظري قادر على تفسير الواقع الاجتماعي للعالم الإسلامي، متجاوزا بذلك كل الأطروحات التقليدية السائدة ، من خلال عملية نقدية شكلت صياغة جديدة للمفاهيم والمصطلحات المتداولة في الفكر الإسلامي في إطار معرفي اجتماعي وقد يجوز لنا أن نقول "سوسيولوجي"-إن لم نكن مبالغين في ذلك- مبينا بذلك الأبعاد الاجتماعية التي يمكن أن تأخذها المفاهيم .

من وجهة نظر سوسيولوجية يمكن للمتمعن في المقدمة استخراج المراحل العلمية التي ينتقل منها المؤلف من المرحلة المجردة للمفهوم إلى الأبعاد والمؤشرات الواقعية القابلة للقياس والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة لسنا بصدد الحديث عنها لأن تركيزنا سيأخذ في هذه الدراسة مفهومين فقط ، هما النسب والشرف ، باعتبارهما من بين أهم المفاهيم المستعملة والمتداولة منذ عقود طويلة سواء على المستوى الفكري المعرفي أو على المستوي الواقعي للمجتمعات الإسلامية ، وخاصة خلال الحقبة التي عايشها المؤلف ، لقد كان مؤلف المقدمة واعيا لما يمكن أن تحدثه أي صياغة جديدة للمفاهيم النظرية وما يمكن أن تؤديه من تغيير للكثير مما كان يعتقد أنها حقيقة ثابتة تُرتب على أساسها الطبقات الاجتماعية و تنفرد طبقة دون أخرى بالحكم ، لذلك فقد جاء نقده مؤسسا ولكنه في نفس الوقت متحفظا من أي ردة فعل من السلطة المعرفية المهيمنة في أخريات القرن الرابع عشر الميلادي ، والتي عُرفت بعدائها لأي إبداع عقلي مؤسس ، ولعل هذا الموقف يشبه إلى حد ما موقفه من الفلسفة كما بينته الأطروحات العديدة التي ناقشت أعماله وموقفه من العقلانية ، سنبين ذلك من خلال جانبين الجانب الأول يوضح الاستعمالات ما قبل الخلدونية أن صح التعبير لمفهومي النسب والشرف وهذا بالرجوع إلى مصادر التراث التاريخية أو التي تدخل في علوم النسب الجانب الثاني سنركز على الجديد الذي قدمه مؤلف المقدمة في صياغة المفهومين .

1. الاستعمالات ما قبل الخلدونية للمفهومين :

يفتقد التراث الذي خلفته الطبقة الأولى من النسابين إلى أي دراسة علمية متخصصة ولاسيما من وجهة نظر أنثروبولوجية، وما قدمته من إسهامات حول أصول (جينيولوجية) التجمعات البشرية للقبائل العربية خلال المراحل التي سبقت الإسلام (الجاهلية) التي كانت تعتمد على المرويات الشفهية أو المراحل التي تلت الإسلام وانتشاره إن المتتبع لعملية تدوين الأنساب يلحظ مدى التطور الذي شهدته هذه العملية ابتداء من القرون الأولى وتحديدًا خلال القرن الثاني الهجري وحتى المراحل المتأخرة أي حتى القرن الثامن عشر، حين بدأت تندر التصنيفات في هذا الفن، ولكن هذه الندرة لم تفض إلى غياب كلي للقضايا المرتبطة بالنسب من قريب أو من بعيد، إذ أخذت توجهات ومناحي رمزية في بعض الأحيان وفي أحيان أخرى اعتبرت موروثا مقدسا يصعب كشفه أو التشكيك فيه ، يذكر "سترستين" في مقدمة كتاب " طرفة الأصحاب في معرفة الأنساب" لعمر بن يوسف بن رسول، مراحل تطور علم الأنساب، حيث يرجع انطلاق عملية التدوين إلى بداية القرن الثاني الهجري لتستمر حتى القرن السابع وهو زمن مؤلف الكتاب، ويذكر" أن التحول في جهة النسب ظهر في منتصف القرن الثاني أين كانوا ينتسبون إلى القبائل العربية فأصبحوا ينتسبون إلى الرسول عليه السلام  وكان لون النسب الجنس والقبيلة ، فأصبح لونه الدين والقرب والبعد من الرسول" 
كما يتجسد الاهتمام بالنسب في طغيانه على مجالات عديدة من المصنفات التي نبغ فيها العرب ابتداءً من الأدب إلى التاريخ والسيرة و الفقه...الخ .

 " فالإخبار التاريخي يتم في إطار من النسب، فالرواية تقدم كل الوقائع في إطار من النسب : التجارة في الجاهلية، الدعوة الإسلامية جرت في إطار من النسب، قريش، الهجرة، إسلام القبائل، ردتها، حركة الفتح، التنظيمات الاجتماعية والمالية في خلافة عمر، التوازنات المختلفة بين الجماعات في الأمصار العربية في القرن الأول نتيجة لذلك تكتسب أطر النسب مكانة مركزية لأنها توفر النسيج البشري الذي صنع الوقائع   ، و لعل هذه المركزية في الحياة الاجتماعية التي اكتسبها موضوع النسب ، هي التي تهمنا في هذه الدراسة، فلن يكون غرضنا العرض التاريخي لتطور تدوين النسب، إذ يمكن الرجوع له في العديد من المصنفات والكتب التي تناولته ، بقدر ما يهمنا البحث في كيفية صياغة هذا المفهوم والنظر إليه من طرف مفكرينا ،  وكيف تم تفسيره عبر المراحل الزمنية ؟  ، وهذا ما يعود بنا مرة أخرى إلى الحقل المعرفي الخلدوني ومعالجاته لهذا المفهوم  مع الأخذ بالاعتبار أن هناك اتصالا وثيقا بين مفهومي النسب والشرف ، و تمت مقاربة هذين المفهومين من خلال الرجوع إلى معظم المصادر التي تكلمت عن الموضوع دون أن نقول جلها ومعالجته وفق التالي: 

1.2 المعالجة الفقهية للنسب :

تظهر المعالجة الفقهية لقضية النسب من خلال التقعيد الفقهي لدى فقهاء الإسلام للقضايا الاجتماعية والسياسية التي مرت بها دولة الإسلام منذ المراحل الأولى ، والتي كان أهمها اشتراط القرشية كشرط أساسي لعقد الإمامة ، وما انجر عنه من خلاف فيما بعد بين الفرق والمذاهب الإسلامية، فالقرشية" شرط يرى بأن الإمامة في قريش"  ، وبالتالي فهي رجوع مرة أخرى للبحث في الأنساب للتمييز عبر الانتماء القبلي ، وهنا نلحظ مدى الانحراف الذي أخذه النسب حيث اكتسى مضموناً سياسياً من خلال ارتباطه بقضية سياسية بالدرجة الأولى، وزادت حدتها في الفتنة الأولى والثانية ، كما زاد الاهتمام به خلال" حكم بني أمية وتفاخرهم به وتقريبهم للنسابين واستماعهم إليهم"  ويصبح النسب أكثر خطورة عندما يؤسس لصراع يكون هو مرجعيته خلال القرن الثاني والثالث الهجري، فتظهر بذلك على الساحة الاجتماعية والسياسية نزعة تؤسس فيما بعد لظهور فرقة مناوئة للعروبة والنزعة العربية بالتقليل من قيمتها والدعوة إلى مساواتها بالأعاجم وهذا ما اصطلح على تسميته بالشعوبية" فهي النسب البعيد أو البطون " ، وقد أثرت هذه النزعة في الكثير من الكتاب والمفكرين المعاصرين لها أو الذين جاؤوا من بعدها، حيث اعتبرت مادة لكتاباتهم ومصنفاتهم ، تقف بين المدح أو الذم لها، ولا عجب أن يكون من بين أهم نتائج هذه النزعة الوضع في الروايات والأحاديث لصالح فريق أو آخر ، لقد امتدت ريح هذه النزعة إلى المحدثين والفقهاء على السواء في معالجتهم للقضايا الفقهية، وهذا ما نجده عند ابن حزم الأندلسي في كتابه " جمهرة أنساب العرب "، الذي حاول أن يدلل على أهمية النسب واعتباره علماً فاضلاً من خلال المعرفة التي يقدمها للفقيه في بعض القضايا المهمة كالزواج والميراث والإمامة... الخ.

ينطلق ابن حزم من معالجته للنسب في مقدمة كتابه من المقولة التي ترى أن"النسب علم لا ينفع ولا يضر" ، و يرى أنه علم جليل رفيع إذ به يكون التعارف ، لذلك فمعرفته من الناحية الشرعية هي فرض ، تنقسم بين فرض كفاية وفرض عين ، أما معرفة النسب التي تستحق أن تكون من فروض العين فهي كالتالي : 
العلم بنسب النبي " فإنه لابد لصحة الإيمان من معرفة ذلك "  ، وهو أن يعلم المرء أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم هو محمد القرشي الهاشمي ، فمن شك في ذلك أهو قرشي أم تميمي أم أعجمي فهو كافر غير عارف بدينه.

اعتبار النسب في الإمامة ، لأن الإمامة في قريش ، يقول " أن يعلم المرء أن الخلافة لا تجوز إلا في ولد فهر ابن مالك بن النضر بن كنانة ولو وسع جهل هذا لا يمكن ادعاء الخلافة لمن لا تحل له ، وهذا لا يجوز أصلا"  ، ولم تحسم هذه القضية سواءٌ على المستوى الواقعي أو الفكري إذ شكلت نقطة خلاف بين المذاهب والفرق الإسلامية وأسالت الكثير من الحبر والدم، ولعل مما زاد في عدم حسمها المعالجة الفقهية النصية لها حتى مرحلة الاجتهاد الخلدوني الذي أخرجها من الإطار الفقهي إلى الإطار الاجتماعي واستطاع أن يفسرها في ظل العصبية ، 
التعارف بين الأنساب حتى لا يعترى أحد إلى غير آبائه ولا ينسب إلى سوى أجداده ، وعلى ذلك يترتب معرفة أحكام الوراثة، يقول"وأن يعرف كل من بفضل به رحم توجب ميراثا  أو تلزمه صلة أو نفقة أو معاقدة أو حكما ومن جهل هذا فقد أضاع فرضا واجبا عليه لازما له من دينه" ، وقد ساق مثالا شخصيا على ذلك وأنه بعلمه بالنسب استطاع أن يردّ المال لصاحبه رغم عدم درايته به، إلى أنه لم يفرق فيما يخص المواريث بين النسب القريب الذي يدخل فيه كل من له الحق في الميراث، والنسب البعيد الذي يبحث في الأصول وهو أبعدها عن المستحقين للميراث.

اعتبار النسب في الكفاءة بين الزوج والزوجة في النكاح، فقد اعتبرها الفقهاء أحد الشروط التي يتم بها الزواج" و المقصود بها أن يكون الزوج كفؤاً للزوجة أي مساويا لها في المنزلة ونظيرا لها في المركز الاجتماعي والمستوى الخلقي والمالي" ، إلا أن  ابن حزم كان يرى غير ذلك، فقد ذهب إلى عدم اعتبار هذه الكفاءة، فقال" أي مسلم ما لم يكن زانيا فله الحق في أن يتزوج أي مسلمة ما لم تكن زانية، و أهل الإسلام كلهم إخوة لا يحرم على ابن من زنجية لغية نكاح لابنة الخليفة الهاشمي" ، بينما ذهب فقهاء آخرون إلى اعتبار الكفاءة بالاستقامة والخلق خاصة لا بالنسب" ، رغم هذا الموقف الرافض لابن حزم، إلا أن بعض الفقهاء المعاصرين مازالوا يقولون بهذا الرأي، فالسيد سابق وهو أحد المعاصرين بعد مناقشته للآراء الفقهاء في القضية، يعيد مرة أخرى ويطرحها على أساس أنها شرط أولي من شروط الزواج ويقول:"العرب بعضهم أكفاء لبعض وقريش بعضهم أكفاء لبعض، فالأعجمي لا يكون كفؤا للعربية والعربي لا يكون كفؤا للقرشية"  ، وهذا دليل على استمرارية تأثير النسب في الأحوال الشخصية حتى الوقت المعاصر ، أما  ما كان فرض كفاية وهو الذي يقوم به بعض من الناس دون سائرهم، معرفة أسماء أمهات المؤمنين، المفترض حقهن على جميع المسلمين"  ومعرفة أكابر الصحابة من المهاجرين والأنصار.

وبهذه المعرفة التي يوفرها النسب يصبح بذلك علماً ينفع ويضر عكس المقولة التي نسبت إلى الرسول والتي ترى بأنه علم لا ينفع و لا يضر، رغم هذه الإثباتات التي يقدمها ابن حزم في معالجته لقضية النسب من الناحية الفقهية إلى أنه امتاز بالنقد والتمحيص والرفض للكثير من الأقوال والآراء التي يراها بعيدة عن العقل والمنطق، ومنها قضية الكفاءة في الزواج التي رفضها، وكثير من الانتحال الذي ابتدعه النسابة ولفقوه لبعض القبائل والشعوب ، لذلك نجد أن صاحب المقدمة يأخذ عنه الكثير من الأمور في هذا الباب .

2.2 المعالجة الحديثية : 

تتمثل المعالجة الحديثية في التدليلات المستقاة من احاديث الرسول والتي اعتمد عليها النسابة في إثبات فضل النسب وتعلمه ، وان كنا نجد لها حضورا متواضعا في كتابات النسابين الأوائل حيث ركزوا على تدوين أصول القبائل دون إثبات شرعية النسب في حد ذاته ، عكس المتأخرين الذين اجتهدوا في جمع كل ما من شأنه أن يدلل على فضل علم النسب في أحاديث الرسول وأقوال الصحابة .

 وكان هذا ملازما كما قلنا سابقا لظهور النزعة الشعوبية ، لذلك فقد كان إثبات فضل النسب يرتبط بإثبات فضل العرب على غيرهم ، ولعل من بين اهم من مثل هذا الاتجاه هو " مرعي بن يوسف الكرمي" الذي يعتبر احد تلامذة الامام احمد بن حنبل واكثرهم تأثرا به ، اذ جمع في مؤلفه الموسوم بـ " مسبوك الذهب في فضل العرب وشرف العلم على شرف النسب " ، عشرات الاحاديث واقوال الصحابة في اثبات فضل العرب .
يقول في مقدمة كتابه " فهذه مسائل تستعذب ودلائل تستعرب تتعلق بفضل العرب وما حازوه من شرف النسب والحسب "  ، في عملية جدلية بين الموضوع الذي هو فضل العرب ونقيضه يصل الى نهاية مفادها أن الفضل والشرف ينال بالعلم وليس بالنسب ، ففضل العرب يثبت بوجهين من المنقول والمعقول ، فالمنقول هو كل ما أثر عن الرسول (ص) من أحاديث في فضل العرب وكذا أقوال الصحابة ، وأما المعقول فقد نسب بالتواتر المحسوس المشاهد ، وهي الخصال الحميدة التي يمتاز بها العرب ، ويذهب الى ان " فضل العرب ثم قريش وبني هاشم لا يرجع الى كون النبي منهم فقط كما يتوهم  بل هم في أحقيتهم أفضل واشرف واكمل ، وبالجملة الذي عليه اهل السنة والجماعة ان جنس العرب افضل من جنس العجم"   ، تظهر النزعة المؤسسة للمركزية العربية والتي تستند الى الدعوة القبلية العرقية لأفضلية العرب على غيرهم واضحة جلية لدى مؤلفنا ، رغم " انه لم يصح لدى البخاري حديث للرسول (ص) في فضل العرب ، ماعدا ما ذكره من مقالة لعمر ابن الخطاب ، عكس ما نجده عند احمد ابن حنبل وتلامذته وما جمعوه من اثار واحاديث كثيرة في فضل العرب وفي ذم كارهيهم "  .

بينما يطرح نقيض هذا الرأي في الجزء الثاني من معالجته لقضية النسب ويقول " ان فضل الجنس (الذي اثبته شرعا وعقلا) لا يستلزم فضل الشخص من حيث الدين الذي هو المقصود الاعظم ، وان استلزمها من حيث الكفاءة ، وهنا مزلة اقدام و هو ان كثيرا يتوهم ان شرف النسب افضل من شرف العلم والاصح ان شرف النسب افضل من حيث الكفاءة ، فلا يكافئ عجمي عالم بنت عربي جاهل ، وشرف العلم افضل من حيث التقدم في الصلاة ومنصب الافتاء والقضاء وغير ذلك"  .

وفي نفيه للشرف الاتي من النسب وهو ما أطلق عليه الشرف الذاتي في مقابل الشرف الكسبي الذي يكون نتيجة العلم والتقوى وهو الفضل الحقيقي ، " فالغرور الواضح والحمق الفاضح أن يفتخر احد من العرب على احد من العجم بمجرد نسبه أو حسبه ومن فعل ذلك فانه مخطئي جاهل مغرور "  ، وتدليلا لهذه النتيجة يعود فيسرد العشرات من الأحاديث وأقوال الصحابة ومواقفهم التي تثبت صحة هذا القول ، وكأنه يناقض كل ما ورد في أفضلية العرب ، هذه المعالجة التي تظهر نوعا من التناقض تعبر عن حضور الصراع حتي الوقت المعاصر للكرمي ، لذلك جاء مؤلفه اجابة عن سؤال فرض نفسه من الناحية الواقعية وهو لمن الافضلية ؟ .

كما تؤكد على الانحراف الذي اتخذه موضوع النسب ، مما يجعلنا نشكك في صحة المدونات والمؤلفات التي عالجت النسب وما تأثرت به من دعوات عرقية وأنها لم تسلم من التحريف ، وهذا ما يؤكده بعض الباحثين في دراساتهم حتي عن القبائل الأبعد نسبا من هذه الفترة ، كالقيسية واليمنية " فالنزوع على أصول يمنية و قيسية ورغم ما تتخذه من شكل مقنن في مستوي النسب ، لم يكن في جانب كبير منه إلا انعكاسا لمواقف سياسية متباينة بين قسمين من المجتمع ، تبلورت ابتداء من الفتنة الثانية ، وتمحورت في نظرة حول مكانة الشعوب غير العربية في دولة الإسلام "  .

3.المعالجة الخلدونية : 

 إذا سلمنا بأسبقية التاريخ عن المقدمة ، فان معالجة قضية النسب لدي ابن خلدون تنطلق من تاريخه ، وهذا ماجرت به العادة لدى المؤرخين المسلمين ، ففي الجزء الأول منه يعرض لأراء الفقهاء والعلماء في قضية النسب ويقسمه حسب رأيه إلى قسمين  : 
القسم الأول ما اسماه بالأنساب القريبة : والتي يمكن التوصل إلى معرفتها ولا يضر الاشتغال بها لدعوى الحاجة إليها في الأمور الشرعية من التعصيب والولاية والعاقلة وفرض ، الإيمان بمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم ، ونسب الخلافة والتفرقة بين العرب والعجم في الحرية والاسترقاق ، عند من يشترط ذلك وفي الأمور العادية أيضا تثبت به اللحمة الطبيعية التي تكون بها المدافعة والمطالبة ومنفعة ذلك إقامة الملك والدين ظاهرة ، أما الثانية فهي الأنساب البعيدة : العسرة المدرك التي لا يوقف عليها إلا بالشواهد والمقارنات لبعد الزمان وطول الأحقاب ، أو لا يوقف عليها رأسا لدروس الأجيال ، فهذا قد ينبغي ان يكون له وجه في الكراهة كما ذهب اليه من ذهب .

وقبل أن يبدأ بعرض انساب الأمم والشعوب يقترح صيغة جديدة تسهل عملية قراءة النسب وهذا باختصاره فيما اسماه  شجرة النسب " قائلا اقترحنا بعد الكلام على الأنساب للأمة وشعوبها أن نضع ذلك على شكل شجرة نجعل أصلها وعمود نسبها باسم الأعظم من أولئك الشعوب ومن له التقدم عليهم فيجعل عمود نسبه أصلا لها وتفرع الشعوب الأخرى عن جانبه من كل جهة كأنها فروع لتلك الشجرة ، حتى تتصل تلك الأنساب عمودا وفروعا بأصلها الجامع لها ظاهرة للعيان في صفحة واحدة ، فترسم فى الخيال دفعة واحدة ويكون ذلك أعون على تصور الأنساب و تشعبها ، فان الصور الحسية اقرب الى الارتسام في الخيال من المعاني المتعلقة " .

وتظهر بعد ذلك على طول كتابه في التاريخ الروح النقدية من خلال تمحيص الأخبار الواردة عن أصول الشعوب والقبائل لدى المؤرخين السابقين له ، فقد ناقشها نقاشا طويلا دون التسليم بها ، والأمثلة على ذلك كثيرة ، وبتبني نفس المنهجية يعرض لكل امة وأصولها مستعينا بذلك بالقواعد الملزمة لكل مؤرخ باحث عن الحقيقة كما افترض ذلك ، كما نجده في آخر كتابه عند تدوين تاريخه يقدم رأيا يكاد ينفرد به إذ شكك في التقسيمات الأولي التي تبناها المؤرخون والنسابة متسائلا عن حصر الأنساب كلها في بني نوح وولده الثلاثة ، قائلا " لا ادري كيف صح انحصار النسب في هؤلاء الثلاثة عند النسابين ، امن النقل ؟ وهو بعيد كما قدمناه أو هو رأي تفرع لهم من انقسام جماعة المعمور فجعلوا شعوب كل جهة لأهل نسب واحد يشتركون فيه ، فجعلوا الجنوب لبني سام والمغرب لبني حام والشمال لبني يافث"   .

1.3 في المقدمة :

يختلف الأمر بانتقالنا إلى نص المقدمة و الذي يمتاز بالعمق في الطرح و الأسلوب كما أشار إلى ذلك العديد من الدارسين ، ومنه يجعل تحليل الخطاب يتطلب عملية تتبع للمفهوم و تفكيك لبعض فصول المقدمة ،و بالاعتماد على طريقة عرضه في التأسيس والبناء للمفهوم ، يمكن تقديمها كالتالي . 

عملية التأسيس تظهر من خلال بلورة مفهوم العصبية الذي يرتبط في صميمه بالنسب ويصبح قرينا له بحيث يصعب التفرقة بينهما ، بل في بعض الأحيان يحملان نفس المعني ، ففي الفصل السابع أين يورد لأول مرة مصطلح النسب في صدد حديثه عن العصبية  " في أن سكني البدو لا تكون إلا للقبائل أهل العصبية " ، " ولا يصدق دفاعهم إلا إذا كانوا عصبية وأهل نسب واحد لأنهم بذلك تشتد شوكتهم ويخشي جانبهم إذ نعرة كل احد على نسبه وعصبيته أهم "   ، هنا ساوى بين العصبية والنسب فمفهوم العصبية مقرون بالنسب وكلاهما يؤدي نفس المعني ، أي القرابة ، وخاصة القريبة ، فالعصبية هنا بمعني الذين يلتقون عند نسب واحد بخلاف المتفردون في أنسابهم ، فالعصبية تتأسس على النسب ، وتكون في إحدى معانيها النسب القريب ،  كلما كان النسب قريب جدا بحيث حصل به الاتحاد والالتحام كانت الوصلة ظاهرة ، بينما النسب البعيد من قبيل الولاء والحلف ، له نفس وظيفة النسب أو قريب منه ، وفي تأكيده على أهمية النسب من خلال الوظيفة التي يؤديها والمتمثلة في الالتحام وصلة الأرحام ، يقر في سابقة الى نفي النسب من خلال حصره في الوظائف السابقة الذكر " وما عدا ذلك مستغني عنه ، إذا النسب أمر وهمي لا حقيقة له " ، هذه العبارة التي ستطرح إشكالا بين الإقرار بوجود النسب ونفيه وما يترتب عليه ، واجمالا يمكن تلخيص أهم ما ورد في الفصلين بان العصبية ترتبط بالنسب إذ تعد ثمرته بمعني نتاجه ، وترتبط لزوما القبائل بوجود العصبية والتي بدورها تتأسس على النسب القريب او البعيد الذي يعني الولاء والتحالف ، وكأنهما يمثلان بعدين لمفهوم العصبية ، والتي تعد الرابطة الاساسية لبنية القبيلة و بدورها تضفي الى الحصول على الرياسة ، ففي الفصل الحادي عشر يشير الى علاقة النسب بالعصبية وبحصول الرئاسة وذلك من خلال نموذجين 

النموذج الاول : النسب العام     ⇐          عصبية اقل        ⇐        عدم حصول الرئاسة  
النموذج الثاني : النسب الخاص  ⇐         عصبية اقوي      ⇐         حصول الرئاسة 

كما يشير الى ظاهرة الادعاء بالنسب والتي انتشرت في وقته ، مما يدعم مرة اخرى مسعاه الاول في الاقرار بنفي وجود النسب بمعني الاتصال الحقيقي بالاصول البعيدة ، ويذكر في ذلك العديد من الشواهد ، كانت اهمها قولت " يغمراسن بن زيان ..... وقولته المشهورة ، اما الدنيا والملك فنلناهما بسيوفنا لا بهذا النسب "   .                              
يمكن اعتبار هذه الفصول من السابع حتى الثاني عشر هي الفصول المرتبطة بالتقعيد والبناء الفكري و المفاهيمي لكل من العصبية والنسب ، فيما لا يمكن اهمال أهم الإشارات التي وردت هنا وهناك في المقدمة او تاريخه والتي تنحي نفس المنحي في التشكيك في المعاني التي أعطيت لمعني النسب والتي لا يمكن استساغتها ، بل في كثير من الأحيان هي عبارة عن أوهام يتم تداولها بين الناس ، وهنا و فق الى حد كبير في فهمها من خلال الوظائف التي تؤديها داخل البناء الاجتماعي ، وهذا هو صميم التنظير السوسيولوجي الحديث الذي سبقه ابن خلدون بقرون ، فالظواهر الاجتماعية تتحدد من خلال الوظائف الاجتماعية التي تؤديها في المجتمع ، بل نلمس اتجاها أكثر حداثة وجرأة عندما لا يمكننا تفسير نظرته السابقة للنسب بين النفي والإثبات ، فلا يعقل ان جل تاريخه وتقعيده يعتمد على النسب بما فيها مفهومه المركزي العصبية ويتم عدم الاعتراف به ، مما يجعل صاحب المقدمة يقع في تناقض لا يمكن تبريره إلا بإيجاد تفسير يتماشي والتأويل المنطقي الذي عهدناه في الخطاب الخلدوني والذي يتطلب النحت والتفكيك ، بل يجعل منه خطابا منتجا سابقا لعصره بنظرته الثاقبة ، و يتقاطع و الطروحات الحديثة في السوسيولوجيا والانثربولوجيا ، ولاسيما في هذه النقطة مع تفسيرات ليفي ستروس لنظام القرابة " فهو نظام ثقافي ليس له وجود إلا في وعي البشر "  ، ليتم التفريق بين ما هو طبيعي بيولوجي وثقافي حضاري  ، وهذا هو التفسير الأسلم الذي يمكننا أن نفهم على ضوئه النسب ، باعتباره معطي وهمي لا يوجد الا في وعي البشر ، والذي تظهر فائدته فيما يؤديه في النسق الاجتماعي ككل . 

وفي حديثه عن الشرف باعتباره المفهوم الثاني ، يظهر كمفهوم مدعم للنسب ،  من خلال الحديث عنه في الفصل الثالث عشر والرابع عشر تحديدا ، فمفهوم الشرف هو الحسب الراجع للأنساب ، فإذا كانت العصبية هي ثمرة النسب ، فان " تعديد الأشراف من الآباء زائد في فائدتها (يقصد هنا العصبية) ، فيكون الحسب والشرف أصليين في أهل العصبية "   ، وهنا يأتي مفهوم الشرف كمدعم ومكمل للنسب بل مدعم للعصبية ومقوي للحمتها ، وهنا يحتل مفهوم الشرف دور المكمل اي المفهوم الثانوي مقارنة بمفهوم النسب الذي يتمركز في الخطاب الخلدوني كمفهوم محوري كامن في البناء المفاهيمي والفكري للخطاب الخلدوني .  

4.خاتمة:

نلمس من خلال هذا العرض ، عملية البناء المحكمة للمفاهيم ، التي تم توظيفها في الخطاب الخلدوني ، والتأسيس للمشروع الفكري في إطار متناسق ، يعتمد التدرج في الطرح والبناء من المجرد الى الواقعي ومن البسيط الى المركب ، من خلال توظيف أهم المفاهيم المتداولة في الحضارة العربية الإسلامية ، كما تم الإشارة الى ذلك ، وإعطائها القراءة السليمة التي تتوافق و الطروحات الحديثة في كثير من العلوم وأهمها السوسيولوجيا والانتربولوجيا ، والتفسير السليم الذي يخرج المعاني والمفاهيم من الأطر التقديسية الى الاستخدامات الوظيفية ، والاستعمالات الواقعية ، المرتبطة بالواقع ، ويمكن استنتاج ذلك بكل يسر من خلال تتبع اي مفهوم يتم التطرق اليه في اي فصل من الفصول ، والانتقال من المستوي التجريدي الى الواقعي ، وهذه في حد ذاتها عملية كافية لتقدير المجهود العقلي والفكري الذي بذله صاحب المقدمة في عمله والذي يؤكد مرة أخرى على عظمته وقيمته ضمن الأنساق المعرفية العالمية .




♡ إدعمنا بمشارك المنشور مع المهتمين . شكرا
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -