أخر الاخبار

الألوان في المدينة الجزائرية: السلطة والمجتمع.

الألوان في المدينة الجزائرية: السلطة والمجتمع.
الألوان في المدينة الجزائرية

الألوان في المدينة الجزائرية: السلطة والمجتمع.

 د. هباشي فوزية، باحثة في علم الاجتماع ، جامعة محمد لمين دباغين سطيف 2

يمكن أن نبني فكرة مهمة عن المدينة في الجزائر و هي أنها تتميز بشكلين من الأنماط السكنية، الأول يتصف بخصائص سوسيو- ثقافية و أنثربولوجية يمكن أن نلاحظها في البنايات التقليدية ، و الثاني استورد أيام الاستعمار أو بعده، بحيث حمل مجموعة من التأثيرات و التمثيلات و الاستعمالات الاجتماعية المختلفة، الأمر الذي ساهم وبشكل كبير على نمو ظاهرة تلون المدن و اختلاف أشكالها في البنايات، تقليدا للمدينة الغربية و تماشيا مع ما يسمى "بموضة العصر"، خصوصا و أننا نلاحظ أنها قضت و بشكل واسع على الأنماط السكنية التقليدية حيث يعتقد مصطفى الأشرف أن الهيكل الحضري المصمم من طرف المعمر كان تهديد أو خطرا على الشخصية الوطنية الجزائرية . وإذا ما بحثنا عن أهم الأسباب التي أدت إلى عدم احتفاظ المدينة الجزائرية على الشكل الأصيل لمدنها نجد أن خروجها من معركة التحرر جعلها لا تستطيع تطوير و تحديث الأشكال الأصيلة لمدنها أمام تزايد الطلب على السكن و انتشار البطالة و النزوح. وهذا يحدث وباستمرار أمام السلطة التي سحبت نفسها عن هذا الأمر تاركة المجتمع يفعل في مدينته ما يشاء، كمحاولة منها لشراء السلم الاجتماعي و تفادي كل ما قد يؤدي إلى المطالبة بالتغيير.

الألوان هي من الخصائص الشكلية المهمة التي تؤثر على البناء المعماري و تناسقه مع المحيط بشكل عام، حيث تلعب دورا أساسيا في الإدراك البصري لمختلف شرائح المجتمع. تنتج فلسفة الألوان من البيئة الثقافية، فهي تؤدي إلى خلق مجموعة من المحددات و المؤثرات الأساسية التي تساعد على الوصول إلى الشكل الذي يناسب المدينة و يريح الرؤية البصرية للأفراد سواء أكانوا من السكان أو مجرد زوار .

حاليا و بسبب السياسات الحضرية المتبعة، ظهرت عدة مؤشرات تدل على بروز فوضى بصرية ناتجة عن عدم تجانس الألوان في الواجهات العمرانية، منها تغير العلاقات الاجتماعية بروز توترات طبقية، الاغتراب الحضري، مع ظهور أشكال جديدة من الألوان القائمة على المحاور التجارية الواقعة معظمها في المناطق السكنية، إلى جانب ملاحظتنا للتغير الواضح في الهوية اللونية لكل حي من أحياء المدينة الدالة على التداخل الثقافي الكبير. يمكن أن يكون النموذج المثالي الذي تميزت به المدينة الجزائرية بالتناسق و الاندماج في الألوان هي الأحياء الشعبية القديمة أو"الحومة"، فالعربي إشبودن يرى أنها كانت مجال موحد للاندماج الاجتماعي الحضري . كما هو ملاحظ في البنايات الخاصة التابعة للمؤسسات الحكومية ( المستشفيات، مراكز الأمن، الدوائر والبلديات...) .

مجموع القيم التي يكتسبها الأفراد من خلال تنشئتهم الاجتماعية هي ذات أهمية بالغة و مؤثرة في سلوك المجتمع و علاقاته ، وهذا ما يجعل المدينة تتضمن عدة أنظمة قيمية تكون إما جديدة تشكلت عن طريق تداخل و احتكار جماعات مختلفة ثقافيا ، أو قديمة تطورت مع الثقافة الأصلية، و كنتيجة لها ظهرت عدة أشكال و أنواع للألوان في الواجهات العمرانية تأتي في الغالب عشوائية و متناقضة تقدم صورة واضحة لطبيعة المجتمع و الاختلاف الثقافي و الطبقي الموجود فيه

التطرق إلى دراسة موضوع الألوان في المدينة الجزائرية يتطلب عدم محاولة حصره في نسق قيمي اجتماعي معين، لأن ذلك يمكن أن ينظر إليه على أنه حكم مسبق يدعم بمواقف سياسية معينة، كالقيم الدينية التي ظهرت لها أشكال عدة منذ الثمانينات في الجزائر، ليتخذ الأفراد الحاملين لها – قبل التحول السياسي- الظواهر الاجتماعية السلبية كمساعد سياسي من أجل كسب تعاطف المجتمع و تأييده ، وهذا ما يبرر الفوضى البصرية الناتجة انذاك عن عدم إكمال أغلب المساجد و الامتناع عن تلوينها لتتناسق مع الهيكل العام للمدينة. هذا العنف الحضري أدى فيما بعد إلى خلق مجموعة من الخطابات و الممارسات الاجتماعية المؤثرة على العلاقات داخل المدينة الجزائرية و التي نستطيع استقراءها من خلال ظاهرة ألوان الواجهات العمرانية .

المفارقة هنا، أن السكان و باختلاف أصولهم " البرانية" أو أبناء " القاع والباع" يحاولون إثبات وجود ثقافتهم و تميزها -كعنصر طاغي في المدينة- من خلال اللون الذي يعتمدونه في واجهة البنايات أو الأبواب و النوافذ، المحلات المراكز التجارية، أو حتى من خلال الكتابات الحائطية. و يمكن إثبات هذا الصراع الرمزي من خلال بعض الدراسات، كدراسة العربي ايشبودن التي أجريت حول فكرة المبررات التي يستعملها ساكني المدينة من أجل شرعنة أحقيتهم في نيل لقب صاحب المدينة الحقيقي . لكن لا يجب هنا أن نحصر الأمر في العنصر الثقافي فقط دون البحث عن السبب الرئيسي وراء الفوضى التي تعيشه المدينة الجزائرية اليوم .

يمكن اعتبار الألوان المجال الثانوي الذي لا يحترم فيه المجتمع السلطة، فالرفض الذي يمارسه اتجاه النظام و السياسات الحضرية يعطي فكرة عن ضعف الضبط و المراقبة السياسية، و يمنح نقطة مهمة حول فكرة أن النظام السياسي قطعت جذوره الاجتماعية كليا و لم يعد يمثل المجتمع في شيء – حسب تعبير عدي الهواري-، فالأزمة السياسية و الأمنية التي عاشتها الدولة في التسعينات مع السياسات التنموية و البرامج التصنيعية التي لم تأخذ بخصوصية المدينة و تمثلاتها في المخيال الاجتماعي العام ساهم على زيادة الشرخ الموجود بين السلطة و المجتمع وبين المجتمع و مدينته، كما أنه أفرز الكثير من التناقضات أهمها: تحرير القيود التي كانت تعطل عملية الاستيلاء على المدينة من طرف أصحاب رؤوس الأموال و المناصب الإدارية، وهذا بسبب إعطاء الدولة الأهمية للمسألة الأمنية على حساب إعطاء الاهتمام اللازم لمراقبة التجاوزات التي تحدث في حق التسيير السليم للمدينة كالبناءات العشوائية و الاحتلال الغير قانوني للفضاءات التابعة للمجال العام .

التصميم المعماري هو انعكاس مهم للواقع السوسيو- سياسي، الاقتصادي و الثقافي للمجتمع، و الملاحظ أن المباني في المدينة الجزائرية قليلة الاهتمام بالزخرفة و التناسق المعماري للألوان، حيث يتم وفي أغلب الحالات التركيز فقط على الغرض أو الوظيفة دون الاهتمام بالمنظر الجمالي العام للمدينة، ففي ظل غياب ثقافة معمارية قوية لدى أفراد المجتمع ظهرت عدة أشكال متضاربة ضمن حيز المباني المجاورة ، و في بعض الأحيان في هيكل المبنى نفسه، مما أدى إلى إنتاج نوع من الفوضى و التلوث البصري للواجهات، حيث نشاهد في الحي أو في الشارع نفسه فسيفساء ثرية بالألوان والأشكال ومواد التشطيب المختلفة، مع ملاحظة الانتشار الكبير للبنايات ذات الواجهات الغير المكتملة، الأمر الذي يعود بطبيعة الحال إلى التقصير الذي تمارسه السلطات المحلية المعنية، خصوصا في الأحياء التي تحظر فيها المباني الخاصة و بقوة، مع العلم أن هذا الأمر داخل أساسا في الشروط القانونية المحددة لطبيعة الخصائص المعمارية في المدن الجزائرية .

مجموع الرخص و الشهادات هي وسائل قانونية و تقنية تستعملها السلطات المحلية لمراقبة عملية التعمير و بناء المساكن وإكمالها، كما هو مبرمج في مختلف التصاميم و المخططات المعتمدة. الهدف من هذه الشهادات هو تنظيم البيئة العمرانية و محاولة الوصول إلى درجة الانسجام في المجال العمراني للمدينة. إحدى المراسيم التشريعية المهمة المتعلقة بعمليات التهيئة و التعمير هما المرسومين 91/176 و 91/175 اللذان يوضحان أمر إلزامية تحضير الشهادات و الرخص و القواعد العامة من أجل البناء و التعمير و مراقبة جميع أفراد المجتمع في عملية إكمال البناء حسب الشروط الموضوعة .

السلطة في الجزائر تأخرت في إصدار التشريعات المقننة الخاصة بالعمليات التعميرية بصفة عامة، و إذا ما اتبعنا مراحل تشكل النظام السياسي سنصل من خلالها إلى التمييز بين عدة فترات أصدرت فيها القوانين حول هذا الموضوع، فمرحلة ما قبل عام 1974 تميزت بقلة القوانين المنظمة للمدينة، حيث كانت تنشأ انطلاقا من مداولات المجلس الشعبي البلدي، لكن بعد مرحلة 1974 تم إصدار الأمر رقم 74/26 المتعلق بالاحتياطات العقارية ، و الذي يمنح الحق للبلديات من أجل تشكيل احتياطات عقارية تخصص لاستقبال استثمارات الدولة و الجماعات العمومية و المحلية، و كل ما يتعلق بعمليات التهيئة و التعمير على ترابها، مع السهر على احترام المعايير العمرانية المحددة .

بعد عام 1990 تم نزع صلاحيات السكن من السلطات المحلية ( البلديات)، و إعطاء الفرصة لاقتصاد السوق تماشيا مع ما جاء في دستور 29 فيفري 1989، و ذلك من خلال إصدار مجموعة من القوانين و الإجراءات التي أثرت على وتيرة إنتاج التحصيصات السكنية و بناء المدينة الجزائرية الحديثة. نجد مثلا في المرسوم التشريعي رقم 91/ 175 القواعد العامة المخصصة للتهيئة و التعمير و البناء، حيث قام المشرع بوضع مجموع المعايير التقنية الواجب توفرها في عملية انجاز الأحياء السكنية، خصوصا ما تعلق منها بمتطلبات حفظ الصحة والأمن، الصرف الصحي، شبكات الطرق و ألوان الواجهات العمرانية .

يمكننا القول أن السلطة قامت بسن المراسيم التشريعية التي تهتم بتنظيم المدينة خصوصا جانب الألوان في الواجهات العمرانية، و هذا ما نجده في المادة 11 من المرسوم رقم 91 / 176 الحامل لقرار إلزام وجود تناسق و اندماج في واجهات المباني من حيث الأشكال و مواد البناء والألوان مع احترام قواعد البناء و التعمير. هذا الأمر يقوي فرضية غياب مراقبة و حضور السلطات المحلية، و عدم اهتمامها بالمشكل مع ضعف قدرتها على فرض القوانين و تغيير واقع المدينة .

السلطة التي احتكرت جميع مجالات الحياة، لاحظت أنها غير قادرة على تجنب بعض المشاكل الاجتماعية الخطيرة التي يمكن أن تتسبب بها الجماهير كاللجوء إلى العنف و المطالبة بتغيير النظام، لذلك قامت بغض النظر و السماح لبعض الممارسات منها تلوين واجهات المباني بالكيفية و باللون الذي يريده أفراد المجتمع. و يمكن لنا انطلاقا من هذه النقطة الوصول إلى فكرة مهمة وهي أن الدولة يمكن أن تقبل بالفوضى العمرانية و لكن لا تستطيع تقبل فوضى اجتماعية قوية إلا في حدود ضيقة، وهذا ما نجده في الدراسة التي قدمها رشيد سيدي بومدين حول الفوضى العمرانية بالمدن الجزائرية .هذا التساهل في عدم تطبيق القرارات هي إحدى أشكال وسائل الضبط السوسيو- سياسية التي تستخدمها السلطة عندما تتصاعد حدة المطالب و تصبح هي غير قادرة على تلبيتها، لذلك تسمح خصوصا للزبائن والأعوان بالقيام بالتجاوزات مقابل الولاء، و بالتالي عوض أن تكون المدينة مركزا للوعي و بؤرة لتشكل ثقافة سياسية مساعدة لعملية التنافس على الحكم أصبحت عنصر مساعد و مهم للسلطة في عملية إنتاج و إعادة إنتاج نفسها .

قائمة المراجع:

  Lacheraf Mustapha , l’algérie nation et société, ( S.N.E.D, Alger, 1978), p 80.
   lcheboudene larebi, l’intégration citadine: à propos de la difficulté d’étre Algérois,( Alger, la CASBAH, 1998) . 
  تجدر الإشارة إلى أن السلطة السياسية في الجزائر سعت إلى تبرير المشاكل التي تتخبط فيها المدينة الجزائرية بعدة ظواهر منها النزوح الريفي،  البطالة ...بعيدا عن الأسباب الحقيقية.
   بخصوص هذا الموضوع نحيل القارئ إلى المؤلف التالي:
lahouari Addi , l’Algérie et la démocratie, la crise du politique dans l’Algérie contemporaine,( la découverte, paris, 1995) .
   هي مفردات انتشرت كثيرا في الخطاب الشعبي الساخر منه والجاد، كمحاولة لإبراز حالة التذمر الكبير اتجاه التداخل الاجتماعي المتناقض ثقافيا.
  lcheboudene larebi , OP Cit.
  المرسوم رقم 91/176، يحدد كيفية تحضير شهادة التعمير ورخصة التجزئة وشهادة التقسيم ورخصة البناء وشهادة المطابقة ورخصة الهدم.
   المرسوم رقم 91/175، المحدد للقواعد العامة للتهيئة والتعمير.
   الجريدة الرسمية رقم 19 / 74، الأمر رقم 74/ 26، المؤرخ في 20 فيفري 1974 يتضمن تكوين احتياطات عقارية لصالح البلديات. 
   الجريدة الرسمية رقم 26/ 91، مرسوم تنفيذي رقم 91 / 175، مؤرخ في 28 ماي 1991، يحدد القواعد العامة للتهيئة والتعمير.
  Rachid sidi Boumediene, désordres ou des ordres urbaine, NAQD, N° 16,2002, P 30 .

♡ إدعمنا بمشارك المنشور مع المهتمين . شكرا
تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -