أخر الاخبار

نظرية الأنساق المتعددة pdf

نظرية الأنساق المتعددة

نحو نظرية أدبية ونقدية جديدة
(نظرية الأنساق المتعددة pdf)

الدكتور جميل حمداوي

المقدمــة

يقصد بنظرية الأنساق المتعددة (Polsystèmes) تلك النظرية التي ارتبطت بمدرسة تل أبيب الإسرائيلية، ويمثلها كل من: إيتيمار إيفان زوهار (Itamar Even-Zohar)، وتوري جدعون(Toury Jadaon)، وشيلي ياهالوم (Shelly Yahalom)، وزوهار شافيت (Zohar Shavit). ومن أعضائها في الخارج النمساوي ماريو فاندروسكا (Mario Wandruszka)، والبلجيكيان جوزي لامبير(Lambert)  ، وريك فان غورب ( Rik Van Gorp )، والكنديان: آني بريسي(Annie Brisset)، وكليمون موازان (Clément Moisan)...

ويقصد بنظرية الأنساق المتعددة تلك النظرية التي تؤمن بوجود أنساق ثقافية وأدبية متعددة ومتداخلة ومتفاعلة داخليا وخارجيا.ومن ثم، تتجاوز هذه النظرية النسق السكوني المغلق عند البنيويين اللسانيين السوسيريين، وتنفتح على نظرية ديناميكية وظيفية، تسمى بالبنيوية الديناميكية، أو البنيوية الوظيفية. 
ومن ثم، يمكن الحديث عن مجموعة من الأنساق أو الحقول الثقافية، كالنسق الأدبي، والنسق الفني، والنسق الديني، والنسق الإيديولوجي، والنسق التاريخي، والنسق المجتمعي، والنسق السياسي، والنسق الاقتصادي...ويتفرع كل نسق، أوما يسمى أيضا بالحقل بمفهوم بيير بورديو (P.Bourdieu)، إلى أنساق وحقول فرعية. 

تنزيل كتاب نظرية الأنساق المتعددة pdf

متابعة قراءة الكتاب 

وهكذا، يتفرع نسق الأدب الرفيع إلى أنساق فرعية، مثل: الأدب المقارن، والأدب الشعبي، والأدب المترجم، وأدب الأطفال، وأدب الشباب... ويبدو أن كل حقل أو نسق عبارة عن ساحة حرب وتنافس وصراع ورهان وهيمنة ضمن ما يسمى بلعبة الأدوار. وقد توجد أجناس أدبية سامية ورفيعة ومقدسة معترف بها مؤسساتيا، وأجناس سفلية وهامشية غير معترف بها.بمعنى أن هناك أجناسا كبرى تسيطر على المركز كالشعر، والرواية، والقصة القصيرة، والمسرحية... وفي الوقت نفسه، هناك أجناس أدبية في شكل أنساق فرعية توجد في الهامش أو المحيط، مثل: اليوميات، والمذكرات، والمقامة، والرسائل، والوصايا... ويمكن للأنساق الفرعية أن تتنافس وتدخل في صراع جدلي لتهيمن على موقع الصدارة. فليس ثمة أنساق منعزلة أومحايدة، بل هناك أنساق متفاعلة ومترابطة ومتداخلة، وفق مرجعيات سياقية وتناصية مختلفة، تتضمن عناصر ثابتة ومتغيرة، ويحدث بينها صراع وصدام وتنافس وتوتر.ومن ثم، لابد من وضع البنية النسقية ضمن سياقها التاريخي والتطوري، وضمن النسق السيميوطيقي العام.
إذاً، ما مفهوم نظرية الأنساق المتعددة؟ وما مرتكزاتها النظرية والمنهجية؟ وما سياقها التاريخي والإبستمولوجي؟ ومن هم أهم روادها وأعلامها ؟ وما إيجابياتها وسلبياتها؟
هذا ماسوف نرصده في كتابنا هذا الذي عنوناه بـ(نحو نظرية أدبية ونقدية جديدة (نظرية الأنساق المتعددة))، على أساس أن نظرية الأنساق المتعددة لها تأثيرها الواضح والجلي في مجال الترجمة، واللسانيات، والثقافة، والأدب بصفة عامة، والأدب المقارن بصفة خاصة.
وأرجو من الله عز وجل أن يلقى هذا الكتاب المتواضع رضا القراء، وأشكر الله شكرا جزيلا على نعمه الكثيرة، وأحمده على علمه وصحته وفضائله التي لا تعد ولا تحصى.

الفصل الأول

التعريف بنظرية الأنساق المتعددة 

المبحث الأول: مفهوم نظرية الأنساق المتعددة

لايمكن فهم نظرية الأنساق المتعددة واستيعابها إلا بتعريف النسق لغة واصطلاحا على النحو التالي: 

المطلب الأول: تعريف النسق لغة واصطلاحا

يعرف ابن منظور (نسق) في كتابه (لسان العرب) بقوله:" النسق من كل شيء: ما كان على طريقة نظام واحد، عام في الأشياء، وقد نسقته تنسيقا، ويخفف. ابن سيده : نسق الشيء ينسقه نسقا ونسقه نظمه على السواء، وانتسق هو وتناسق، والاسم النسق، وقد انتسقت هذه الأشياء بعضها إلى بعض أي تنسقت. والنحويون يسمون حروف العطف حروف النسق لأن الشيء إذا عطفت عليه شيئا بعده جرى مجرى واحدا. وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ناسقوا بين الحج والعمرة، قال شمر: معنى ناسقوا تابعوا وواتروا. يقال: ناسق بين الأمرين أي تابع بينهما. وثغر نسق إذا كانت الأسنان مستوية. ونسق الأسنان: انتظامها في النبتة وحسن تركيبها. والنسق: العطف على الأول، والفعل كالفعل. وثغر نسق وخرز نسق أي منتظم...
والتنسيق: التنظيم. والنسق: ما جاء من الكلام على نظام واحد، والعرب تقول لطوار الحبل إذا امتد مستويا: خذ على هذا النسق أي على هذا الطوار، والكلام إذا كان مسجعا، قيل: له نسق حسن. ابن الأعرابي : أنسق الرجل إذا تكلم سجعا. والنسق: كواكب مصطفة خلف الثريا، يقال لها الفرود. ويقال: رأيت نسقا من الرجال والمتاع أي بعضها إلى جنب بعض...
والنسق، بالتسكين: مصدر نسقت الكلام إذا عطفت بعضه على بعض، ويقال: نسقت بين الشيئين وناسقت."  
وتدل النسقية، في اللغة، على التنظيم، والترابط، والتماسك، والتسلسل، وتتابع الأفكار، وانتظامها في نسيج نصي موحد موضوعيا وعضويا.
وتعني كلمة النسق (système)، في اليونانية القديمة (sustēma)، التنظيم والتركيب والمجموع.ومن ثم، تحيل هذه الكلمة على النظام والكلية والتنسيق والتنظيم، وربط العلاقات التفاعلية بين البنيات والعناصر والأجزاء. ومن ثم، فالنسق عبارة عن نظام بنيوي عضوي كلي وجامع.
وتدل كلمة النسق (système)، في المعاجم الأجنبية الحديثة والمعاصرة، على مجموعة من العلامات اللسانية والأدبية والثقافية، أو على مجموعة من العناصر والبنيات التي تتفاعل فيما بينها، وفق مجموعة من المبادىء والقواعد والمعايير.ويتحدد النسق أيضا بواسطة مكوناته وعناصره وبنياته التي يتضمنها؛ ومن خلال مختلف التفاعلات التي تقيمها العناصر فيما بينها؛ وعبر الحدود التي تفصل بين العنصر الذي ينتمي إلى النسق الداخلي، أو الذي ينتمي إلى محيطه الخارجي؛ مع تبيان آليات التفاعل التي تتحكم في النسق في ارتباطه الوثيق بمحيطه السياقي المجتمعي والثقافي.
ومن جهة أخرى، يمكن الحديث عن نسق مركزي علوي، ونسق فرعي هامشي(sous-système)، ويسمى كذلك بالمجزوءة (module). وقد يكون النسق مغلقا أومفتوحا أو محايدا منعزلا حسب درجة تفاعله مع المحيط الخارجي.

المطلب الثاني: النسق بالمفهوم العلمي

يعني النسق، بالمفهوم العلمي، نظاما متكاملا ومترابطا من الأبنية النظرية التي يكونها الفكر حول موضوع ما، مثل: تقديم نموذج رياضي يفسر ظاهرة فيزيائية. ويدل النسق أيضا على مجموعة من القواعد والمبادئ والفرضيات والمسلمات والنتائج التي تكون نظرية كلية مجردة، أو نظاما، أو جهازا علميا كليا، مثل: النسق النيوتوني في الفيزياء، والنسق الأرسطي في الفلسفة، إلخ..
وقد يعني النسق كذلك مجموعة من المناهج والنظريات والإجراءات المنظمة مؤسساتيا بغية أداء وظيفة ما، مثل: النسق التربوي، ونسق الإنتاج، ونسق الدفاع...
وقد يحيل النسق على مجموعة من العناصر والبنيات المترابطة عضويا فيما بينها من أجل تحقيق نتيجة ما، مثل: النسق العصبي، أو قد يدل على مجموعة من العناصر المتماثلة أو المشتركة في تنوعها واختلافها. وقد يعني النسق كذلك نظاما آليا وميكانيكيا يؤدي وظيفة معينة، مثل: نسق الإضاءة، ونسق السيارة...
وقد يكون النسق أداة للتحليل، على أساس أنه شبكة مستقلة ومتفاوتة في الأهمية، يتضمن مجموعة من العناصر الخاصة التي تجيب - كليا أو جزئيا- عن هدف محدد ما.
وعليه، يمكن الحديث عن أنواع مختلفة من الأنساق، كالنسق الفيزيائي، والنسق الرياضي، والنسق البيولوجي، والنسق الاقتصادي، والنسق السياسي، والنسق الاقتصادي، والنسق الأدبي، والنسق الفني، والنسق الثقافي، والنسق التربوي، والنسق الاجتماعي، والنسق العلمي، والنسق الفلسفي، والنسق المنطقي، والنسق الإعلامي، والنسق التقني، والنسق الآلي (السيبرنيتيقي)، والنسق الفلكي...
وتخضع هذه الأنساق العلمية للتطور والتغير والقطائع الإبستمولوجية والثورات العلمية المفاجئة، ضمن ما يسمى بالبراديغمات(Paradigmes) والنظريات أو النماذج العلمية.
ويعني هذا أن الثقافة، بصفة عامة، تتغير بتغير البراديغمات والنماذج والأنساق المعرفية والعلمية والأدبية والفنية نظرية وتطبيقا وممارسة ووظيفة. بمعنى أن التحول الثقافي يتحقق بفعل تغير النظريات والنماذج والبرديغمات العلمية التي تظهر من حين لآخر، كما يثبت ذلك توماس كون(T.Kuhn) في كتابه (بنية الثورات العلمية) . أي: تتغير الأنساق الثقافية بتغير البراديغمات والنماذج والنظريات والمناهج والافتراضات العلمية. وفي هذا، يقول جاك هارمان:"تعتبر النظرية العلمية جهازا مفهوميا ذا طابع رمزي ومنطقي، يستجيب لعدة شروط، منها الملاءمة في مواجهة إشكالية محددة وموضوعات معينة، والتماسك فيما يخص مجموعة المفاهيم والقضايا التي تستعملها (النظرية)، والاختبار في مواجهة إجراءات عملية ميدانية توظف لجمع المعطيات (البيانات).تقوم النظرية دائما بعملية اختزال لحقل المشكلات التي مهدت لبلورتها، إنها محددة وتشير إلى مجال دقيق ومحدد من الواقع.إضافة إلى ذلك فهي تحتفظ بطابع افتراضي، قابلة للمراجعة، قابلة لإثبات خطئها،ولا تستطيع أبدا اعتبارها صادقة بشكل نهائي دون أن نعرضها باستمرار للاختبار أو مواجهة وقائع أخرى ونظريات أخرى.
إن الخطاب العلمي هو عبارة عن مجموعة من الرموز تتمتع ببناء نحوي، وقواعد دلالية تمنح مرجعية معنى لمفاهيم ذلك الخطاب.لكن خلافا للنظرية، لايمكن اعتبار الخطاب قابلا للاختبار، بل يمكن اعتباره ملائما بدرجة أو بأخرى لمعالجة مشكلة ما، أو مناسبا لفئة معينة من الموضوعات.فالخطاب، في هذه الحالة، يمثل بالنسبة للنظرية ما يمثله الغلاف بالنسبة للهدية.
يمثل الأنموذج أو البراديغم مزيجا من افتراضات فلسفية، أنموذجيات نظرية، مفاهيم مفتاحية، نتائج بحوث قيمة، تشكل في مجموعها عالما مألوفا للتفكير لدى الباحثين في فترة محددة من تطور تخصص علمي معين." 
وإذا كان توماس كون يتحدث عن البراديغم أو النموذج العلمي، فإن بيير بورديو يتحدث عن الهابيتوس، أو نظام الاستعدادات والتصورات(Habitus). في حين، يتحدث ماكس فيبر عن البيروف (Beruf)، و هذه النماذج العلمية والاجتماعية كلها تسهم في تغيير الثقافة وشؤونها. 
وقد يتفرع كل نسق مركزي أو رئيسي إلى أنساق فرعية معينة، مثل: النسق الاجتماعي الذي يتفرع إلى النسق العائلي، والنسق التربوي، والنسق الطبيعي، والنسق الثقافي، والنسق الحضري، والنسق القروي، والنسق الأدبي، والنسق الفني، والنسق الصحي، والنسق الجمعوي...
كما يتفرع النسق الاقتصادي إلى نسق الإنتاج، ونسق التوزيع، ونسق الاستهلاك، ونسق الاستثمار. وهكذا دواليك مع باقي الأنساق المركزية الأخرى. 

المطلب الثالث: النسق في المفهوم الفلسفي

يقصد بالنسق التجميع أو دوران مجموعة من الأفكار والأطروحات والمحاور حول مبدإ مركزي ما، أو هو عبارة عن مجموعة من الأجزاء والمقاطع المنسجمة والمترابطة فيما بينها، والتي تدور حول فكرة أو أطروحة فلسفية محورية عامة. بمعنى أن النسق هو نظام من العناصر المتماسكة والمتناسقة فكريا وذهنيا ونظريا. وقد يكون الترابط فيما بينها بالاتصال أو الانفصال. ويتسم النسق الفلسفي بالاتساق والترابط والانسجام، أو هو مجموعة من الأفكار الفلسفية المنظمة في محاور وقضايا، سواء أكانت مسنجمة أم متعارضة. 
ويحيل النسق كذلك على التفاعل، والترابط، والتماسك، والتنظيم البنيوي الوظيفي، والتداخل بين مجموعة من العناصر.أي: يتضمن النسق مجموعة من البنيات الفكرية والذهنية التي تتداخل مع العناصر والبنيات الأخرى، في إطار وحدة عضوية نسقية كلية.ومن ثم، لابد أن يكون للفيلسوف نسق فلسفي معين تجاه الوجود، والمعرفة، والقيم.
وتعني كلمة (النسقيون) مجموعة من الفلاسفة الذين يحملون تصورا فلسفيا نسقيا مشتركا. وهنا، يمكن الحديث عن نسق في شكل مدرسة أو مذهب يجمع مجموعة من الفلاسفة الذين يشتركون في مجموعة من المحور والأفكار والأطروحات، ويختلفون في البعض الآخر. ويعني هذا أن هناك نسقا فلسفيا خاصا، ونسقا فلسفيا عاما. فالنسق الفلسفي العقلي يعبر عنه مجموعة من الفلاسفة، أمثال: ديكارت، وليبنز، وسبينوزا، وكانط...والنسق التجريبي الحسي يعبر عنه مجموعة من الفلاسفة كجون لوك، ودافيد هيوم، وأستيوارت ميل...بيد أن لكل فيلسوف تصوره الخاص ونسقه الفلسفي الذي يميزه عن الآخرين. 
علاوة على ذلك، يحوي النسق مجموعة من النظريات الفلسفية، ومجموعة من المحاور والقضايا التي تترابط فيما بينها بطريقة منطقية استدلالية وحجاجية متماسكة.
ولايمكن الحديث عن النسق الفلسفي إلا إذا تحدث الفيلسوف عن ثلاثة محاور فكرية كبرى هي: محور الوجود، ومحور المعرفة، ومحور الأخلاق. وبالتالي، تضمن ذلك النسق رؤية الفيلسوف إلى العالم والوجود والإنسان والمعرفة والقيم. وينبغي أن تتسم هذه الرؤية بالاتساق، والانسجام، والشمولية، والابتعاد عن التناقض.
وعليه، تعني النسقية كتابة نص فلسفي متكامل ومنسجم ومتسلسل ومترابط منطقيا وحجاجيا واستدلاليا، سواء أكان نصا استقرائيا أم استنباطيا. كما " يتشكل النسق الفلسفي من الأطروحة الخاصة به والأطروحات التي تعارضها. "
ومن سمات الكتابة النسقية كذلك استخدام العقل والمنطق، والاستعانة بالبرهان والاستنتاج، والاحتكام إلى تبادل الحجج والأدلة، وتفنيد الدعاوى المخالفة، وعرض الأطروحات المتباينة أو المتوافقة، والميل نحو الجدل البناء والهادف، والتمسك بالاستدلال المتدرج بكل أنواعه، وتمثل القياس بمختلف أصنافه، والتسلح بالحجاج للتأثير والإقناع والحوار والاقتناع. ويعني هذا كله أن الكتابة النسقية هي كتابة منطقية حجاجية وجدالية وحوارية بامتياز. 

المطلب الرابع: النسق في منظور النقد الثقافي

النقد الثقافي هو الذي يدرس الأدب الفني والجمالي باعتباره ظاهرة ثقافية مضمرة. وبتعبير آخر، هو ربط الأدب بسياقه الثقافي غير المعلن. ومن ثم، لايتعامل النقد الثقافي مع النصوص والخطابات الجمالية والفنية على أنها رموز جمالية، ومجازات شكلية موحية، بل على أساس أنها أنساق ثقافية مضمرة، تعكس مجموعة من السياقات الثقافية التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والقيم الحضارية والإنسانية. ومن هنا، يتعامل النقد الثقافي مع الأدب الجمالي ليس باعتباره نصا، بل بمثابة نسق ثقافي يؤدي وظيفة نسقية ثقافية تضمر أكثر مما تعلن.
علاوة على ذلك، علينا ألا نخلط النقد الثقافي بنقد الثقافة أو الدراسات الثقافية العامة، فالنقد الثقافي هو الذي يتعامل مع النصوص والخطابات الأدبية والجمالية والفنية، فيحاول استكشاف أنساقها الثقافية المضمرة غير الواعية. وينتمي هذا النقد الثقافي إلى ما يسمى بنظرية الأدب على سبيل التدقيق. في حين، تنتمي الدراسات الثقافية إلى الأنتروبولوجيا والإتنولوجيا وعلم الاجتماع والفلسفة والإعلام وغيرها من الحقول المعرفية الأخرى. وفي هذا السياق، يقول عبد الله الغذامي:" ونميز هنا بين (نقد الثقافة) و(النقد الثقافي)، حيث تكثر المشاريع البحثية في ثقافتنا العربية، من تلك التي عرضت وتعرض قضايا الفكر والمجتمع والسياسة والثقافة بعامة، وهي مشاريع لها إسهاماتها المهمة والقوية، وهذا كله يأتي تحت مسمى (نقد الثقافة)، كما لابد من التمييز بين الدراسات الثقافية من جهة والنقد الثقافي من جهة ثانية، وهذا تمييز ضروري التبس على كثير من الناس حيث خلطوا بين (نقد الثقافة) وكتابات (الدراسات الثقافية)، وما نحن بصدده من (نقد ثقافي)، ونحن نسعى في مشروعنا إلى تخصيص مصطلح (النقد الثقافي) ليكون مصطلحا قائما على منهجية أدواتية وإجرائية تخصه، أولا، ثم هي تأخذ على عاتقها أسئلة تتعلق بآليات استقبال النص الجمالي، من حيث إنه المضمر النسقي لايتبدى على سطح اللغة، ولكنه نسق مضمر تمكن مع الزمن من الاختباء، وتمكن من اصطناع الحيل في التخفي، حتى ليخفى على كتاب النصوص من كبار المبدعين والتجديديين، وسيبدو الحداثي رجعيا، بسبب سلطة النسق المضمر عليه." 
وعليه، فالنقد الثقافي عبارة عن مقاربة متعددة الاختصاصات، تنبني على التاريخ، وتستكشف الأنساق والأنظمة الثقافية، وتجعل النص، أو الخطاب، وسيلة أو أداة لفهم المكونات الثقافية المضمرة في اللاوعي اللغوي والأدبي والجمالي. أما الدراسات الثقافية، فتهتم بعمليات إنتاج الثقافة وتوزيعها واستهلاكها، وقد توسعت لتشمل دراسة التاريخ، وأدب المهاجرين، والعرق، والكتابة النسائية، والجنس، والعرق، والشذوذ، والدلالة، والإمتاع... وذلك كله من أجل كشف نظرية الهيمنة وأساليبها.
ويرى عبد الله محمد الغذامي  ضرورة ربط النقد الثقافي بالنسقية، فإذا كان رومان جاكبسون قد حدد ست وظائف لستة عناصر: الوظيفة الجمالية للرسالة، والوظيفة الانفعالية للمرسل، والوظيفة التأثيرية للمتلقي، والوظيفة المرجعية للمرجع، والوظيفة الحفاظية للقناة، والوظيفة الوصفية للغة. فقد حان الوقت من أجل إضافة الوظيفة النسقية للعنصر النسقي . ويعني هذا أن النقد الثقافي يهتم بالمضمر في النصوص والخطابات، ويستقصي اللاوعي النصي، وينتقل دلاليا من الدلالات الحرفية والتضمينية إلى الدلالات النسقية.
هذا، ويستند النقد الثقافي إلى ثلاث دلالات: الدلالة المباشرة الحرفية، والدلالة الإيحائية المجازية الرمزية، والدلالة النسقية الثقافية. و" إذا قبلنا - يقول الغذامي- بإضافة عنصر سابع إلى عناصر الرسالة الستة، وسميناه بالعنصر النسقي، فهو سيصبح المولد للدلالة النسقية، وحاجتنا إلى الدلالة النسقية هي لب القضية، إذ إن ما نعهده من دلالات لغوية لم تعد كافية لكشف كل ماتخبئه اللغة من مخزون دلالي، ولدينا الدلالة الصريحة التي هي الدلالة المعهودة في التداول اللغوي، وفي الأدب وصل النقد إلى مفهوم الدلالة الضمنية، فيما نحن هنا نقول بنوع مختلف من الدلالة هي الدلالة النسقية، وستكون نوعا ثالثا يضاف إلى الدلالات تلك. والدلالة النسقية هي قيمة نحوية ونصوصية مخبوءة في المضمر النصي في الخطاب اللغوي. ونحن نسلم بوجود الدلالتين الصريحة والضمنية، وكونهما ضمن حدود الوعي المباشر، كما في الصريحة، أو الوعي النقدي، كما في الضمنية، أما الدلالة النسقية فهي في المضمر وليست في الوعي، وتحتاج إلى أدوات نقدية مدققة تأخذ بمبدإ النقد الثقافي لكي تكتشفها، ولكي تكتمل منظومة النظر والإجراء." .
وما يهمنا في هذه الدلالات الثلاث هي الدلالة الثقافية الرمزية التي تكتشف على مستوى الباطن والمضمر، فتصبح أهم من الدلالتين السابقتين: الحرفية والجمالية.
ويعتمد النقد الثقافي على مصطلح النسق المضمر، وهو نسق مركزي في إطار المقاربة الثقافية، على أساس أن كل ثقافة معينة تحمل في طياتها أنساقا مهيمنة، فالنسق الجمالي والبلاغي في الأدب يخفي أنساقا ثقافية مضمرة. وبتعبير آخر، ليس في الأدب سوى الوظيفة الأدبية والشعرية، فهناك كذلك الوظيفة النسقية التي يعتني بها النقد الثقافي. وفي هذا الصدد، يقول عبد الله الغذامي:" نزعم في عرضنا لمشروع النقد الثقافي، أن في الخطاب الأدبي، والشعري تحديدا، قيما نسقية مضمرة، تتسبب في الـتأسيس لنسق ثقافي مهيمن ظلت الثقافة العربية تعاني منه على مدى مازال قائما، ظل هذا النسق غير منقود ولا مكشوف بسبب توسله بالجمالي الأدبي، وبسبب عمى النقد الأدبي عن كشفه، مذ انشغل النقد الأدبي بالجمالي وشروطه، أو عيوب الجمالي، ولم ينشغل بالأنساق المضمرة، كنسق الشعرنة." 
ويعني هذا أن النقد الثقافي يكشف أنساقا متناقضة ومتصارعة، فيتضح أن هناك نسقا ظاهرا يقول شيئا، ونسقا مضمرا غير واع وغير معلن يقول شيئا آخر. وهذا المضمر هو الذي يسمى بالنسق الثقافي. وغالبا، ما يتخفى النسق الثقافي وراء النسق الجمالي والأدبي. ومن ثم، فاستخلاص الأنساق الثقافية المضمرة ذات قابلية جماهيرية شعبية، على عكس الأنساق النخبوية التي لاتلقى شعبية عامة على مستوى الاستقبال والاتصال. بمعنى أن النقد الثقافي في خدمة القيم الإنسانية، وخدمة الإنسان كيفما كان مستواه الاجتماعي والطبقي والعرقي والإثني،" إن قيما مثل: قيم الحرية، والاعتراف بالآخر، وتقدير المهمش والمؤنث، والعدالة، والإنسانية، هي كلها قيم عليا تقول بها. أي: ثقافة، ولكن تحقيقها عمليا ومسلكيا هو القضية. ولو حدث وكشفنا أن الخطاب الأدبي الجمالي، الشعري وغيره، يقدم في مضمره أنساقا تنسخ هذه القيم وتنقض ماهو في وعي أفراد. أي: ثقافة، فهذا معناه أن في الثقافة عللا نسقية لم تكتشف، ولم تفضح، ويكون الخطاب متضمنا لها، دون وعي من منتجي الخطاب ولا من مستهلكيه." 
ويعني هذا أن المقاربة الثقافية لايهمها في النص تلك الأبنية الجمالية والفنية والمضامين المباشرة، بل ما يعنيها هو استكشاف الأنساق الثقافية المضمرة.ويعني هذا أن ما يهم النقد الثقافي هو طرح أسئلة ثقافية جديدة، كسؤال النسق بدل سؤال النص، وسؤال المضمر بدل سؤال الدال، وسؤال الاستهلاك الجماهيري بدل سؤال النخبة المبدعة، وسؤال التأثير الذي ينصب على ثنائية المركز والهامش، أو ثنائية المؤسسة والمهمل، أو سؤال العمومي والخصوصي. وبتعبير آخر، طرح أسئلة ثقافية مركزة ودقيقة.أي: رصد حيل الثقافة التي تمرر عبر أنساق النصوص والخطابات الجمالية والفنية والأدبية. ويعني هذا أن النص الأدبي حامل أنساق ثقافية مضمرة وغير واعية. ومن هنا، ضرورة الوقوف على الأنساق الثقافية، وليس على النص الأدبي والجمالي.

المطلب الخامس: تعريف نظرية الأنساق المتعددة

يتكون مصطلح (Polysystème) من كلمتين: (Poly) الذي يعني التعددية والكثرة والتنوع، و (Système) الذي يحيل على النسق أو النظام أو الحقل بمفهوم بيير بورديو(Bourdieu) ؛ ذلك السوسيولوجي الفرنسي الذي يرى أن العالم المجتمعي، في تنظيماتنا الاجتماعية المعاصرة، منقسم إلى مجموعة من الحقول(Champs). بمعنى أن تقسيم العمل في مجتمعنا قد أوجد مجموعة من الحقول والفضاءات المجتمعية الفرعية، مثل: الحقل الفني، والحقل السياسي، والحقل الاقتصادي، والحقل الثقافي، والحقل التربوي، والحقل الرياضي، والحقل الديني...أي: يتميز كل حقل فضائي باستقلالية نسبية عن المجتمع ككل. وتتميز هذه الفضاءات - حسب بيير بورديو- بالتراتبية الطبقية والاجتماعية، وباشتداد الصراع الدينامي والتنافس الشديد بين الأفراد حول الامتيازات المادية والمعنوية، والصراع حول مواقع السلطة والهيمنة، حسب طبيعة الرأسمال الذي يملكه كل فرد داخل المجتمع. وبالتالي، يكون الصراع حادا، في كل حقل مجمعي، حول المصالح المشتركة أو المصالح الخاصة التي تتعلق بكل فرد على حدة. ومن ثم، يخضع الحقل لمنطق التنافس والصراع والهيمنة أوالعيش المشترك. ولكل حقل هابيتوسه الخاص(Habitus).
وفي هذا السياق نفسه، يوظف كليمون موازان مفهوم الحقل على أساس أنه مجموعة من الأنساق المتعددة.ويعني هذا أن النسق عبارة عن مجموعة من العلاقات الهرمية المتفاوتة، بمستويات متعددة ومختلفة ومتنوعة. وبالتالي، ينقسم النسق الأدبي- مثلا- باعتباره نسقا مركزيا إلى مجموعة من الأنساق الفرعية، مثل: أدب الأطفال، وأدب الشباب، والأدب الشعبي، والأدب المقارن، والترجمة...
ويرى كليمون موازان أن المؤلفات والأعمال الإبداعية تشكل أنساقا متعددة، مادامت تعبر عن مجالات ثقافية واجتماعية متعددة.وبالتالي، لابد من تحديد مختلف العلاقات المتداخلة بين هذه المجالات، تلك العلاقات التي تكون إما متماثلة (مشتركة) وإما مختلفة . وبالتالي، فالأدب نسق ثقافي وسوسيولوجي بامتياز.
وهكذا، يتضح لنا أن مصطلح الحقل قريب جدا من مفهوم النسق، ويعده بورديو شبكة من العلاقات الموضوعية، ويتحدد موقع كل عنصر داخل هذه الشبكة بموقع العناصر الأخرى، ضمن سياق بنية الحقل . 
 وبناء على ما سبق، تعني نظرية الأنساق المتعددة - حسب الباحث الكندي كليمون موازان - " تلك العلاقة الموجودة بين نسقين داخل الحياة النصية، أو داخل الحياة الأنتروبولوجية الاجتماعية ". 
ويعني هذا أن نظرية الأنساق المتعددة تدرس مختلف العلاقات الموجودة بين الأنساق الأدبية والنصية واللسانية في علاقتها بالأنساق الأنتروبولوجية والاجتماعية. أي: هناك تماثل بين البنى النسقية النصية الداخلية والبنى النسقية الاجتماعية. ويعني هذا كله ربط الأنساق النصية والخطابية واللغوية بالأنساق المجتمعية في إطار علاقات جدلية أو تماثلية. وأكثر من هذا تربط نظرية الأنساق المتعددة مختلف التفاعلات الموجودة بين النصوص والخطابات بالممارسات الاجتماعية والثقافية.ومن هنا، لابد لنظرية الأدب أو تاريخ الأدب من رصد مختلف الأنساق الموجودة في حقل ثقافي ما، بالتركيز على اختلافها وتنوعها وتنافسها وصراعها، بوصفها وتحليلها والمقارنة بينها، وتأويل سياقاتها النصية والمرجعية المتعددة. وبالتالي، لاينبغي دراسة الأدب في صيرورته الخطية من لحظة الإنتاج حتى لحظة الاستقبال، بل على أساس تطوري ودياكروني وديناميكي.أي: يعد تطور النسق عاملا من عوامل التغير، أو صيرورة جدلية من التحولات المختلفة. 
ويرى إيفان زوهار أن نظرية الأنساق المتعددة عبارة عن فضاء من النصوص المتراصة بنيويا، والمتراتبة هرميا، وتختلف هذه النصوص والنماذج عن بعضها البعض بسجلها (Répertoire) الشكلي، أو الأسلوبي، أو اللساني.
هذا، وتؤمن نظرية الأنساق المتعددة بوجود مجموعة من الانساق المتداخلة والمتفاوتة والمتفاعلة فيما بينها بطريقة ديناميكية، تكون ما يسمى بالنسق السيميوطيقي العام أو (البولي سيستام/Polyséstème). ومن ثم، فالترجة الأدبية جزء من نسق الأدب المقارن، والأدب المقارن جزء من نسق الأدب، والأدب جزء من النسق الفني، والنسق الفني جزء من النسق الديني أو السياسي أو الثقافي بصفة عامة.

المطلب السادس: أهداف نظرية الأنساق المتعددة

تهدف نظرية الأنساق المتعددة إلى وصف الأنساق الثقافية والأدبية والفنية والمعرفية، في تطورها وصراعها وتنافسها واختلافها، بهدف تبيان الكيفية التي تشتغل بها الأنساق الأدبية، وتتطور بنية ودلالة ووظيفة. ويعني هذا كله أن هذه المقاربة وصفية وتاريخية وتطورية، تجمع بين البنية والوظيفة، أو بين الوصف والتفسير، أو بين التحليل والاستقراء المجتمعي والثقافي.
علاوة على ذلك، فهذه النظرية ذات طابع كوني بامتياز، تهدف إلى وصف الظواهر الثقافية وتفسيرها، بالتركيز على تطورها من جهة أولى، واستكشاف علاقاتها الداخلية من جهة ثانية، وصد علاقاتها الخارجية مع محيطها القريب أو البعيد من جهة ثالثة.ويعني هذا أن هذه النظرية تعنى بتطور الظاهرة الثقافية، وتحديد مختلف علاقاتها التفاعلية، سواء أكان ذلك على مستوى الداخل أم الخارج.وأكثر من هذا تقوم برصد الأنساق الكبرى والفرعية وتصنيفها والإحالة عليها، مع وصفها وتفسيرها تطورا وعلاقة ووظيفة.
إذاً، هناك حديث عن نسقية متعددة ذات جذور اجتماعية وثقافية. وتتميز بوجود تنافس وصراع بين مختلف مستويات النسق أو الحقل المحدد. وهناك توتر دائم بين المركز والمحيط، أو المركز والهامش. علاوة على الصراع الموجود بين الأجناس الأدبية المهيمنة في الزمان والمكان، وبالضبط في فترة محددة، وأجناس فرعية أخرى تحاول - جاهدة- أن تفرض نفسها في الساحة الثقافية والأدبية والفنية، بعد الإطاحة بأجناس المركز. ويعني هذا أن نظرية الأنساق المتعددة تصنف النصوص إلى نصوص مركزية قوية ومقننة ومعيارية، معترف بها قانونيا وثقافيا وتربويا ومؤسساتيا. وفي الوقت نفسه، هناك نصوص أخرى غير معترف بها مؤسساتيا، وغير مقننة، وأقل قيمة ومعيارية وتقديرا واحتراما، مثل: الأدب الشعبي، والمذكرات، واليوميات، والخواطر، والمترجمات، وأدب الأطفال، وأدب الشباب...
ومن هنا، تحاول نظرية الأنساق المتعددة أن تحلل هذا التنافس والصراع الجدلي الموجود بين الأنساق الأولية القائمة على التجديد والتجريب والانزياح (الأنساق الفرعية)، والأنساق الثانوية المحافظة التي ترتكن إلى التمركز والتقليد والمحاكاة، والتشبث بالأصول والمعايير الفنية والأدبية والثقافية (الأنساق المركزية). أي: تهدف هذه النظرية إلى تصوير الصراع الطاحن الطبيعي والأبدي بين التقليد والتجديد، أو بين الأصالة والمعاصرة، أو بين الثابت والمتحول. ويعني هذا كله أن كل جنس أولي يحتل المركز بحداثته وبعده التجريبي والانزياحي، فإنه سرعان ما يصبح جنسا محافظا مع توالي الأيام والعقود والأجيال، فيحل محله جنس ثانوي فرعي، بعد الصراع معه جدليا.لكن هذا الجنس قد يرتكن، بدوره، إلى المحافظة والثبات والتقليد، فتحل محله أنساق فرعية وهامشية أخرى، وهكذا دواليك...أي: تخضع الأجناس الأدبية - باعتبارها أنساقا أدبية وثقافية- لجدلية الموت والحياة والنشوء والارتقاء والتطور والاضمحلال.
وتحاول نظرية الأنساق المتعددة أن تعيد النظر في آليات فهم الأدب والفن والثقافة والترجمة واللسانيات والأدب المقارن، برصد الأنساق الرئيسية والفرعية، والتمييز بين الأنساق المركزية والهامشية، وتبيان الحدود الموجودة بينها، وتفسير الصراع الموجود داخل مختلف حقول هذه الأنساق، وتأويلها ضمن مقاربة سوسيولوجية ثقافية.
ولاننسى أن نقول:إن نظرية الأنساق المتعددة عبارة عن مقاربة تحليلية ووصفية في حقل الترجمة، بالتركيز على النص الهدف أو نص الاستقبال، بدل الاهتمام بالنص المصدر. ويعني هذا أن هذه النظرية ساعية بجدية إلى تأسيس علم الترجمة من جهة، و الاهتمام بأنساق ثقافة الاستقبال من جهة أخرى.

المبحث الثاني: مرتكزات نظرية الأنساق المتعددة

تنبني نظرية الأنساق المتعددة على مجموعة من المرتكزات والخاصيات الأساسية التي تميزها عن النسق البنيوي اللساني السوسيري، وهذه المرتكزات أو الخاصيات النظرية هي: 
 خاصية تعدد الأنساق: ترى نظرية الأنساق المتعددة أن الخطاب، أو الظاهرة الثقافية، عبارة عن نسق مركزي يتفرع إلى أنساق فرعية متعددة. ومن ثم، فالنسق نظام كلي من العناصر البنيوية التي تتفاعل فيما بينها اختلافا وتآلفا وتضادا.ومن ثم، فالأدب عبارة عن ظاهرة نسقية ثقافية مركبة، أو نسقا رمزيا عاما، يندرج ضمن النسق السيميوطيقي العام. وبالتالي، يتفرع نسق الأدب إلى مجموعة من الأنساق الفرعية الأخرى، مثل: أدب الأطفال، وأدب الشباب، والترجمة، والأدب المقارن، واليوميات، والمذكرات، والخواطر، والشذرات، والأدب الشعبي، إلخ.
ويتميز النسق بثلاث خاصيات أساسية هي: التهجين، والدينامية، والانفتاح.
خاصية الديناميكية: ليس النسق نظاما أحاديا مغلقا أو ثابتا أو محايثا أو ستاتيكيا، كما يرى فرديناند دوسوسير((F.De Saussure) في أثناء حديثه عن النظام اللغوي، بل هو نسق ديناميكي وظيفي ومتغير بتغير المحيط أو السياق والبيئة. ومن ثم، فالسانكرونية هي نتاج دياكرونية متطورة ومتغيرة، أو هي حالة توازن تتحقق بعد حالة توتر وصراع وتأزم.ويرى يوري تينيانوف(Tynianov) ورومان جاكبسون(R.Jakobson) أن كل نسق سانكروني يحوي بعدا دينايكيا، مادام يتضمن ماضيا ومستقبلا، كما تؤكد ذلك عناصره البنيوية التي لا يمكن الفصل بينها. ومن ثم، يخضع كل نسق لتطور من حالة سانكرونية إلى حالة دياكرونية ، أو من حالة ثابتة إلى حالة متغيرة.
علاوة على ذلك، يتضمن النص أو الخطاب أو الجنس الأدبي، في نسقه الداخلي، عناصر ديناميكية فعالة خاصة به. بمعنى أن هناك نوعين من الديناميكية: ديناميكية داخلية وديناميكية خارجية. أي: يتطور النسق الأدبي داخليا بفعل التطور والخلخلة والانزياح الداخلي . وبعد ذلك، يتطور حركيا بفعل مؤثرات سياقية خارجية. ومن هنا، يتحول الثبات إلى حركة، كما تتحول المحايثة السانكرونية الساكنة إلى تغير ديناميكي متحرك ومتطور .
وتأسيسا على ما سبق، يخضع النص، أو الخطاب، أو الجنس الأدبي، لقانون التطور الفني والجمالي من الداخل والخارج، وقد يكون هذا التطور شكليا بنيويا من جهة، أو تاريخيا وسياقيا من جهة أخرى .
خاصيــة التهجيــن: يتميز النسق بخاصيته التهجينية والتعددية والبوليفونية  . ومن باب العلم، فالتهجين (Hybride) مصطلح مأخوذ من حقول معرفية متعددة هي: البيولوجيا، والفيزياء، والكيمياء، والفلاحة، والإعلاميات، والعلوم، والتكنولوجيا، والأدب، واللسانيات... ويعني التهجين أيضا الاحتكاك الثقافي والمثقافة وتلاقح الثقافات والحضارات.وهي من سمات ما بعد الحداثة التي تؤمن بتداخل الثقافات والحضارات، سواء أكانت مركزية أم مهمشة.
وهناك من يفسر نشأة الرواية بالتهجين بين الأجناس الأدبية، والتداخل بينها وحدة وانصهارا وتفاعلا. ومن ثم فهي - حسب ميخائيل باختين(M.Bakhtine)- ظاهرة تميز نشأة الرواية الغربية من خلال تداخلها مع الأجناس الأدبية التقليدية والقديمة، مثل: الروايات الرسائلية، والروايات اليونانية، والرواية الفكاهية، والخلط بين النصوص السردية غير الخيالية والرواية الباروكية. وقد ساعد هذا كله على ظهور الرواية الحوارية أو الديالوجية. ويعبر هذا التهجين الأسلوبي عن قيم إيديولوجية متفاوتة من شخص إلى آخر. ومن هنا، فالتهجين يعبر عن أزمة القيم، كالانتقال من قيم الارستقراطية في عصر النهضة إلى القيم الإنسانية في عصر الأنوار .
وعليه، فليس هناك نسق نقي أو صاف أو خالص، بل هناك ازدواجية أو تعددية في الأنساق، تعبر عن تعددية طبقية واجتماعية وثقافية وعرقية ولسانية، وتداخل في الثقافات والحضارات، وتكامل فيما بينها على مستوى العلاقات والأنساق.

خاصية الانفتاح:

 إذا كان النسق اللساني عند فرديناند دوسوسير نسقا بنيويا مغلقا وسكونيا، فإن النسق عند رواد نظرية الأنساق المتعددة منفتحا على باقي الأنساق الأخرى، سواء أكانت مركزية ضمن حقل ثقافي مشترك، أم فرعية هامشية تحاول جاهدة أن تحل محل النسق المركزي.ويعني هذا أن النسق لايقتصر على البنى الداخلية فحسب، بل ينفتح على المحيط والهامش والسياق التداولي والمرجعي والثقافي والنسق العام.أي: يتجاوز النسق البنية الستاتيكية نحو الوظيفة.وبتعبير آخر، فالنسق وظيفي بانفتاحه على المحيط والواقع الثقافي الخارجي المحلي، والوطني، والكوني.
وللتوضيح أكثر، لايمكن دراسة نسق الأدب على أساس أنه بنية مغلقة، أو نسق ستاتيكي مسيج بالعناصر الداخلية الثابتة، كما تذهب إلى ذلك البنيوية الوصفية السكونية مع فرديناند دوسيوسير(F.De Saussure)، بل هو نسق مركب يتكون من مجموعة من الأنساق المتعددة والمختلفة والمتنوعة، في إطار بنيوية وظيفية ديناميكية منفتحة على الذات، والمرجع، والمقصدية، والسياق التداولي والثقافي والواقعي والمجتمعي.أي: هناك دعوة صريحة إلى تمثل البنيوية الوظيفية الدياكرونية التي تتجاوز الثبات نحو التحول والتطور والتغير.
وهكذا، تؤمن نظرية الأنساق المتعددة بانفتاح النظام أو النسق على المحيط الخارجي ، أو السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتاريخي والثقافي والديني والتربوي.أي: يتجاوز النسق سمة الانغلاق الأحادي نحو سمة الانفتاح على الذات، والغير، والإنسان، والهامش، والتاريخ، والمجتمع، والمرجع، والمقصدية، والسياق، والمثاقفة، والتهجين، والتعددية، والبوليفونية، والتنوع، والتطور التاريخي، والصراع الجدلي... 
خاصية التقنين عن طريق السجـــل: يقصد بالسجل (Repertoire) مجموعة من القواعد والقوانين والمعايير والأصول التي تحدد إنتاجا، أو عملا أدبيا، أو ظاهرة ثقافية ما، يكتسي صفة شرعية ومؤسساتية، في زمان ومكان ما. بمعنى أن السجل عبارة عن قوانين معيارية فرضتها الثقافة السائدة، في فترة زمنية ما، تستخدم للتمييز بين الأدب الرفيع والأدب الوضيع، أو التمييز بين الجيد والرديء من الظواهر الثقافية والأدبية والفنية السائدة في مجتمع ما. وأكثر من هذا يستعمل السجل للتقويم والوصف والحكم على مختلف الإنتاجات الثقافية. وهذه القوانين والمعايير والنماذج والضوابط يضعها الأفراد، والجماعات، والمؤسسات...وتسهر عليها المؤسسات الأكاديمية الأدبية والثقافية والنقدية.
ويعني هذا أن النسق يرتكز على مجموعة من القواعد والمعايير المقننة التي تميز بين الإنتاجات والأجناس الأدبية السامية والمتدنية. وعلى هذا الأساس، يمكن التمييز بين النسق الرفيع والنسق المتدني، أو بين النسق المركزي والنسق الهامشي...

الخاصية العلائقية: يخضع النسق لمجموعة من العلاقات الداخلية والخارجية.بمعنى أن النسق العام أو المركزي يتفرع إلى مجموعة من الأنساق أو الحقول الفرعية التي تخضع بدورها لعلاقات بنيوية داخلية بين مختلف عناصر هذه الأنساق، وفي علاقة مع النسق المركزي أو العام. ويعني هذا أن ثمة تفاعلا داخليا ينبغي رصده وتسجيله ووصفه وتفسيره.أي: استكشاف مختلف علاقات الشبكة النسقية وصفا وتفسيرا، من خلال التركيز على البنية، والعلاقة، والوظيفة. ومن ثم، يتفاعل النسق مع عناصره ومكوناته داخليا، ضمن قواعد ومبادئ ومعايير محددة، ضمن ما يسمى بالسجل أو التقنين. وفي الوقت نفسه، يتفاعل النسق، ضمن علاقات تبادلية خارجية محلية أو وطنية أو كونية، مع المحيط أو الهامش أو السياق الخارجي. 
إذ يمكن للنسق الأدبي- مثلا- أن يربط علاقات ترابطية وتفاعلية وتناصية مع نصوص وخطابات وأجناس أدبية أخرى. وأكثر من هذا، تتفاعل الأجناس الأدبية، في تطورها التاريخي والفني والشكل والجمالي، فيما بينها، من خلال تبادل العناصر والمكونات والبنيات، إن على مستوى الشكل، وإن على مستوى المضمون. والدليل على عملية التفاعل بين الأجناس الأدبية وجود قواسم وعناصر ومكونات ثابتة ومشتركة، وسمات متغيرة تميزها وتفردها وتخصصها. 
ويعني هذا كله أن النسق يخضع لمنطق العلاقات والتفاعلات والتبادلات، سواء أكان ذلك على الصعيد الداخلي للنسق أم على الصعيد الخارجي: المحلي، والوطني، والكوني. 
المبحث الثالث: المفاهيم والمصطلحات
تستند نظرية الأنساق المتعددة إلى مجموعة من المفاهيم الرئيسية، مثل: المركز، والهامش، والمحيط، والنسق، والحقل، والأنساق المتعددة، والأنساق الفرعية، والداخل والخارج، والسياق، والحدود، وسيمياء الكون، والمناطق الثقافية، والاستقلالية، والتعارض، والمؤسسة، والعلاقة، والوظيفة، والوصف، والتفسير، والتطور، والدور، والصراع الجدلي، والتماثل، والبنيوية الديناميكية الوظيفية، والأغلبية، والأقلية، وصراع الأجناس الأدبية، والترجمة، والثقافة، والمثاقفة، والتبادل الثقافي، والتكامل الثقافي، والتهجين، والبوليفونية، وعبر الثقافي، والسجل، والانفتاح، والدينامية، والتفاعل،والثقافة السائدة،والظواهر الثقافية، والتقنين، والمعايير، والقوة، والسلطة، والهيمنة، والتنافس، والنص المنطلق، والنص الهدف، والنص المصدر، وثقافة الاستقبال، وعلم الترجمة، والنقل، والتحويل، وسوسيولوجيا الثقافة،والتقليد والتجديد، والأنساق الأولية والثانوية، والأدب الرسمي و الشعبي،...
وخلاصة القول، إن نظرية الأنساق الأدبية نظرية نقدية وأدبية جديدة، تدرس مختلف الظواهر الثقافية والأدبية والفنية والجمالية والترجمية على أساس أنها أنساق متعددة، تتفرع عنها أنساق فرعية أخرى، ضمن ثنائية المركز والمحيط، و في إطار سوسيولوجيا الثقافة،

الفصل الثاني:

سياق نظرية الأنساق المتعددة

ظهرت نظرية الأنساق المتعددة، في فترة ما بعد الحداثة، بمثابة رد فعل على البنيوية التي هيمنت مدة ثلاثين سنة على الثقافة الجامعية الغربية والعالمية بصفة عامة، والجامعة الفرنسية بصفة خاصة، ابتداء من سنوات الخمسين إلى غاية سنوات الثمانين من القرن الماضي، في إطار نزعة علمية وضعية وتجريبية، كان الهدف منها البحث عن البنيات الثابتة التي تتحكم في الظواهر المتعددة والمتغيرة. 
ويشبه هذا العمل النقدي التفكيكي الذي قامت به نظرية الأنساق المتعددة ما قام به الروسي يوري تينيانوف(Youri Tynianov)، عندما وجه سهام النقد للشكلانية الروسية؛ أو ما قام به جان بيير ريشار(Jean-Pierre Richard) الذي تجاوز البنيوية الإنشائية؛ أو ما قام به سلمان رشدي (Salman Rushdie) بدعوته إلى الرواية ذات الشكل الكبير(le roman de la grande forme)؛ أو ما قام به ميخائيل باختين(Bakhtine) الذي دعا إلى البوليفونية أو الأصوات المتعددة؛ وما قام به أمبرطو إيكو(Umberto Eco) أو جاك ديريدا(Derrida) على سبيل التخصيص...
وقد انتشرت نظرية الأنساق المتعددة في الدول التي تعرف ازدواجية لغوية، أو تعددية لغوية، أو تعددية ثقافية، أو في تلك الدول التي قدمت أفكارا مهمة حول الترجمة لأهميتها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، مثل: إسرائيل، وكندا، وهولندة، وبلجيكا، وإسبانيا، والصين...
ولا يمكن الحديث عن نظرية الأنساق المتعددة إلا في إطار سياقها التاريخي الذي يتمثل في فلسفة مابعد الحداثة؛ لأن هذه النظرية تتداخل مع باقي النظريات الأخرى التي جاءت رد فعل على نظريات التمركز الغربي (البنيوية والسيميائية مثلا). ومن ثم، تشترك نظرية الأنساق المتعددة مع النظريات والتصورات والفلسفات الأخرى - التي ظهرت في فترة ما بعد الحداثة- في الاهتمام بالذات، والغير، والإنسان، والهامش، والتاريخ، والمجتمع، والمرجع، والمقصدية، والسياق، والمثاقفة، والتهجين، والتعددية، والبوليفونية، والتنوع، والتطور التاريخي، والصراع الجدلي.أي: ترتبط بسوسيولوجيا الثقافة ارتباطا وثيقا. 
وتأسيسا على ما سبق، تمتد فترة مابعد الحداثة (Post modernism) من سنة 1970م إلى سنة 1990م. ويقصد بها النظريات والتيارات والمدارس الفلسفية والفكرية والأدبية والنقدية والفنية التي ظهرت ضد الحداثة البنيوية والسيميائية واللسانية. 
وقد جاءت مابعد الحداثة لتقويض الميتافيزيقا الغربية، وتحطيم المقولات المركزية التي هيمنت قديما وحديثا على الفكر الغربي، كاللغة، والهوية، والأصل، والصوت، والعقل...وقد استخدمت في ذلك آليات التشتيت والتشكيك والاختلاف والتغريب. وتقترن مابعد الحداثة بفلسفة الفوضى والعدمية والتفكيك واللامعنى واللانظام. وتتميز نظريات ما بعد الحداثة، عن الحداثة السابقة، بقوة التحرر من قيود التمركز، والانفكاك عن اللوغوس والتقليد وماهو متعارف عليه، وممارسة كتابة الاختلاف والهدم والتشريح، والانفتاح على الغير عبر الحوار والتفاعل والتناص، ومحاربة لغة البنية والانغلاق والانطواء، مع فضح المؤسسات الغربية المهيمنة، وتعرية الإيديولوجيا البيضاء، والاهتمام بالمدنس والهامش والغريب والمتخيل والمختلف، والعناية بالعرق، واللون، والجنس، والأنوثة، وخطاب مابعد الاستعمار....

المبحث الأول: مفهوم مابعد الحداثة

 يعد مصطلح (مابعد الحداثة) من المصطلحات الأكثر التباسا وإثارة في فترة مابعد الحداثة، حيث اختلف حوله نقاد ودارسو (مابعد الحداثة)؛ نظرا لتعدد مفاهيمه ومدلولاته من ناقد إلى آخر. بل نجد أن المعاني التي قدمت لمفهوم (مابعد الحداثة) متناقضة فيما بينها ومختلفة ومتداخلة، حتى أثير حول استخدام مفهوم مصطلح (مابعد الحداثة) نقاش مستفيض، إذ يعتبر من أهم المصطلحات التي" شاعت وسادت منذ الخمسينيات الميلادية، ولم يهتد أحد بعد إلى تحديد مصدره: فهناك من يعيد المفردة إلى المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي عام 1954م، وهناك من يربطها بالشاعر والناقد الأمريكي تشارلس أولسون في الخمسينيات الميلادية، وهناك من يحيلها إلى ناقد الثقافة ليزلي فيدلر، ويحدد زمانها بعام 1965م. على أن البحث عن أصول المفردة أفضى إلى اكتشاف استخدامها قبل هذه التواريخ بكثير، كما في استخدام جون واتكنز تشابمان لمصطلح " الرسم مابعد الحداثي" في عقد 1870م، وظهور مصطلح مابعد الحداثة عند رودولف بانفتز في عام 1917م." 
وقد تبين واضحا أن أفكار (مابعد الحداثة) مختلفة نسبيا عن مفاهيم الحداثة السابقة. وهناك من يرى أن أفكار (مابعد الحداثة) مختلفة جذريا عن أفكار الحداثة. ويعتقد"بعضهم أنه من الممكن اعتبار الكتاب والفنانين في مرحلة (ماقبل الحداثة) على أنهم مابعد الحداثيون، بالرغم من أن المفهوم لم يكن مصاغا آنذاك. وهذا أقرب إلى الجدل الذي يرى نظريات فرويد عن اللاوعي أنها موجودة مسبقا في الفكر الرومانسي الألماني. وقد ناقش الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس (Habermas)أن مشروع الحداثة لم ينته أبدا بعد، حيث يواصل هذا المشروع سعيه لتحقيق أهدافه (وبهذا، يقصد هابرماس قيم تنوير العقل والعدالة الاجتماعية). ويعد مصطلح "مابعد الحداثة " (والكلمات المشابهة له) أيضا في نظر الكثيرين أنه يشير، بصفة عامة، إلى دور وسائل الإعلام في المجتمعات الرأسمالية في أواخر القرن العشرين. وأيا كان استخدامه المفضل، فمن الواضح أن نظرية تفسير التطورات الاجتماعية والثقافية عن طريق السرديات الكبرى لم تعد ممكنة أو مقبولة، وأنه لم يعد ممكنا للأفكار أن تكون مرتبطة ارتباطا وثيقا مع الواقع التاريخي. فكل شيء هو النص والصورة. وبالنسبة للكثيرين، يحاول العالم الذي يتم تصويره في فيلم( الماتريكس)، حيث نجد الحياة البشرية تقلد الآلات التي تسيطر عليها، إقناع المشاهد بعالم مابعد الحداثة، لإقناعه بكابوس من عالم الخيال العلمي، فهذا العالم هو بمنزلة استعارة أو مجاز عن حالة الإنسان الحالي." 
وهناك من الباحثين والدارسين من يربط (مابعد الحداثة) بفلسفة التفكيك والتقويض، وتحطيم المقولات المركزية الكبرى التي هيمنت على الثقافة الغربية من أفلاطون إلى يومنا هذا. وفي هذا الصدد، يقول دافيد كارتر (David karter)، في كتابه( النظرية الأدبية)،:"وتعبر هذه المواقف من "مابعد الحداثة" عن موقف متشكك بشكل جوهري لجميع المعارف البشرية، وقد أثرت هذه المواقف على العديد من التخصصات الأكاديمية وميادين النشاط الإنساني(من علم الاجتماع إلى القانون والدراسات الثقافية، من بين الميادين الأخرى). وبالنسبة للكثيرين تعد "مابعد الحداثة" عدمية على نحو خطير، فهي تقوض أي معنى للنظام والسيطرة المركزية للتجربة. فلا العالم ولا الذات لهما وحدة متماسكة" .
ومن ثم، فقد اعتمدت فلسفة (مابعد الحداثة) على التشكيك والتقويض والعدمية. كما اعتمدت على التناص واللانظام واللاانسجام، وإعادة النظر في الكثير من المسلمات والمقولات المركزية التي تعارف عليها الفكر الغربي قديما وحديثا. ومن ثم، تزعزع مابعد الحداثة- حسب دافيد كارتر:" جميع المفاهيم التقليدية المتعلقة باللغة والهوية، إذ نسمع كثيرا من الطلاب الأجانب الذين يدرسون الأدب الإنكليزي ينعتون أي شيء لايفهمونه أو يعبرون عنه بمابعد حداثي. وكثيرا ماتكشف النصوص الأدبية في "مابعد الحداثة" عن غياب الانغلاق، وتركز تحليلاتها على ذلك. وتهتم كل من النصوص والانتقادات بعدم وضوح الهوية، وماهو معروف باسم" التناص": هو إعادة صياغة الأعمال المبكرة أو الترابط بين النصوص الأدبية." 
هذا، ويمكن الحديث، في إطار (مابعد الحداثة)، عن أربعة منظورات تجاهها، المنظور الفلسفي الذي يرى أن (مابعد الحداثة) دليل على الفراغ بغياب الحداثة نفسها؛ والمنظور التاريخي الذي يرى أن (مابعد الحداثة) حركة ابتعاد عن الحداثة أو رفضا لبعض جوانبها؛ والمنظور الإيديولوجي السياسي الذي يرى أن (مابعد الحداثة) تعرية للأوهام الإيديولوجية الغربية؛ والمنظور الإستراتيجي النصوصي الذي يرى أن مقاربة نصوص (مابعد الحداثة) لاتتقيد بالمعايير المنهجية، وليست ثمة قراءة واحدة، بل قراءات منفتحة ومتعددة .

المبحث الثاني: الظروف التي نشأت فيها ما بعد الحداثة

 ارتبطت (مابعد الحداثة)، في بعدها التاريخي والمرجعي والسياقي، بتطور الرأسمالية الغربية مابعد الحداثية اجتماعيا، واقتصاديا، وسياسيا، وثقافيا. كما ارتبطت ارتباطا وثيقا بتطور وسائل الإعلام. كما جاءت مابعد الحداثة رد فعل على البنيوية اللسانية، والمقولات المركزية الغربية التي تحيل على الهيمنة والسيطرة والاسغلال والاستلاب. كما استهدفت (مابعد الحداثة) تقويض الفلسفة الغربية، وتعرية المؤسسات الرأسمالية التي تتحكم في العالم، وتحتكر وسائل الإنتاج، وتمتلك المعرفة العلمية. كما عملت (مابعد الحداثة) على انتقاد اللوغوس والمنطق عبر آليات التشكيك والتشتيت والتشريح والتفكيك.
هذا، وقد ظهرت (مابعد الحداثة) في ظروف سياسية معقدة، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، في سياق الحرب الباردة، وانتشار التسلح النووي، وإعلان ميلاد حقوق الإنسان، وظهور مسرح اللامعقول( صمويل بيكيت، وأداموف، ويونيسكو، وأرابال…)، وظهور الفلسفات اللاعقلانية، مثل: السريالية، والوجودية، والفرويدية، والعبثية، والعدمية… وقد كانت التفكيكية معبرا رئيسا للانتقال من مرحلة الحداثة إلى (مابعد الحداثة). 
ومن ثم، فقد كانت (مابعد الحداثة) مفهوما مناقضا ومدلولا مضادا للحداثة. ولذلك، "احتفلت مابعد الحداثة بأنموذج التشظي والتشتيت واللاتقريرية كمقابل لشموليات الحداثة وثوابتها، وزعزعت الثقة بالأنموذج الكوني، وبالخطية التقدمية، وبعلاقة النتيجة بأسبابها، حاربت العقل والعقلانية، ودعت إلى خلق أساطير جديدة تتناسب مع مفاهيمها التي ترفض النماذج المتعالية، وتضع محلها الضرورات الروحية، وضرورة قبول التغيير المستمر، وتبجيل اللحظة الحاضرة المعاشة. كما رفضت الفصل بين الحياة والفن، حتى أدب "مابعد الحداثة" ونظرياتها تأبى التأويل، وتحارب المعاني الثابتة." 
هذا، وقد ظهرت (مابعد الحداثة) - أولا- في مجال التشكيل والرسم والعمارة والهندسة المدنية، قبل أن تنتقل إلى الفلسفة والأدب والفن والتكنولوجيا وباقي العلوم والمعارف الإنسانية. ولايمكن الحديث عن (مابعد حداثة) واحدة، بل هناك (مابعد حداثة) عامة، و(مابعد حداثات) فرعية. وقد غزت نظرية(مابعد الحداثة) جميع الفروع المعرفية، كالأدب، والنقد، والفن، والفلسفة، والأخلاق، والتربية، وعلم الاجتماع، والأنتروبولوجيا، وعلم الثقافة، والاقتصاد، والسياسة، والعمارة، والتشكيل... 

المبحث الثالث: مقومات مابعد الحداثة

تستند مابعد الحداثة، في الثقافة الغربية، إلى مجموعة من المكونات والمرتكزات الفكرية والذهنية والفنية والجمالية والأدبية والنقدية، ويمكن حصرها في العناصر والمبادىء التالية:

التقويض:

 تهدف نظرية (مابعد الحداثة) إلى تقويض الفكر الغربي، وتحطيم أقانيمه المركزية عن طريق التشتيت والتأجيل والتفكيك. بمعنى أن (مابعد الحداثة) قد تسلحت بمعاول الهدم والتشريح لتعرية الخطابات الرسمية، وفضح الإيديولوجيات السائدة المتآكلة، باستعمال لغة الاختلاف والتضاد والتناقض.

التشكيك:

 أهم ما تتميز به (مابعد الحداثة) هو التشكيك في المعارف اليقينية، وانتقاد المؤسسات الثقافية المالكة للخطاب والقوة والمعرفة والسلطة. ومن ثم، أصبح التشكيك آلية للطعن في الفلسفة الغربية المبنية على العقل والحضور والدال الصوتي. ومن هنا، فتفكيكية جاك ديريدا هي، في الحقيقة، تشكيك في الميتافيزيقا الغربية من أفلاطون إلى فترة الفلسفة الحديثة.

 الفلسفة العدمية:

 من يتأمل جوهر فلسفات مابعد الحداثة، فسيجدها فلسفات عدمية وفوضوية، تقوم على تغييب المعنى، وتقويض العقل والمنطق والنظام والانسجام. بمعنى أن فلسفات (مابعد الحداثة) هي فلسفات لاتقدم بدائل عملية واقعية وبراجماتية، بل هي فلسفات عبثية لامعقولة، تنشر اليأس والشكوى والفوضى في المجتمع.

التفكك واللاانسجام:

 إذا كانت فلسفة الحداثة، أو تيارات البنيوية والسيميائية، تبحث عن النظام والانسجام، وتهدف إلى توحيد النصوص والخطابات، وتجميعها في بنيات كونية، وتجريدها في قواعد صورية عامة، من أجل خلق الانسجام والتشاكل، وتحقيق الكلية والعضوية الكونية، فإن فلسفات (مابعد الحداثة) هي ضد النظام والانسجام، بل هي تعارض فكرة الكلية. وفي المقابل، تدعو إلى التعددية والاختلاف واللانظام، وتفكيك ماهو منظم ومتعارف عليه.

هيمنة الصورة:

 رافقت (مابعد الحداثة) تطور وسائل الإعلام، فأصبحت الصورة البصرية علامة سيميائية تشهد على تطور مابعد الحداثة، ولم تعد اللغة هي المنظم الوحيد للحياة الإنسانية، بل أصبحت الصورة هي المحرك الأساس للتحصيل المعرفي، وتعرف الحقيقة. ولاغرو أن نجد جيل دولوز (Gilles Deleuze) يهتم بالصورة السينمائية، إذ يقسمها إلى الصورة - الإدراك، والصورة – الانفعال، والصورة – الفعل، ويعتبر العالم خداعا، كخداع السينما للزمان والمكان عن طريق خداع الحواس، ويبدو ذلك واضحا في كتابيه(الصورة- الحركة) (1983م) و( الصورة- الزمان) (1985م).

 الغرابة والغموض:

 تتميز (مابعد الحداثة) بالغرابة، والشذوذ، وغموض الآراء والأفكار والمواقف، فمازالت تفكيكية جاك ديريدا - مثلا- مبهمة وغامضة، من الصعب فهمها واستيعابها، حتى إن مصطلح التفكيك نفسه أثار كثيرا من النقاش والتأويلات المختلفة في حقول ثقافية متنوعة، وخاصة في اليابان والولايات المتحدة الأمريكية. كما أن فلسفة جيل دولوز معقدة وغامضة، من الصعب بمكان تمثلها بكل سهولة.

لتناص: 

يعني التناص استلهام نصوص الآخرين بطريقة واعية أو غير واعية. بمعنى أن أي نص يتفاعل ويتداخل نصيا مع النصوص الأخرى امتصاصا وتقليدا وحوارا. و يدل التناص، في معانيه القريبة والبعيدة، على التعددية، والتنوع، والمعرفة الخلفية، وترسبات الذاكرة. وقد ارتبط التناص نظريا مع النقد الحواري لدى ميخائيل باختين(M.Bakhtine).

 تفكيك المقولات المركزية الكبرى:

 استهدفت (مابعد الحداثة) تقويض المقولات المركزية الغربية الكبرى، كالدال والمدول، واللسان والكلام، والحضور والغياب،إلى جانب انتقاد مفاهيم أخرى، كالجوهر، والحقيقة، والعقل، والوجود، والهوية... عن طريق التشريح، والتفكيك، والتقويض، والتشتيت، والتأجيل...

 الانفتاح:

 إذاكانت البنيوية الحداثية قد آمنت بفلسفة البنية والانغلاق الداخلي، وعدم الانفتاح على المعنى، والسياق الخارجي والمرجعي، فإن (مابعد الحداثة) قد اتخذت لنفسها الانفتاح وسيلة للتفاعل والتفاهم والتعايش والتسامح. ويعد التناص آلية لهذا الانفتاح، كما أن الاهتمام بالسياق الخارجي هو دليل آخر على هذا الانفتاح الإيجابي التعددي.

قوة التحرر: 

تعمل فلسفات (مابعد الحداثة) على تحرير الإنسان من قهر المؤسسات المالكة للخطاب والمعرفة والسلطة، وتحريره أيضا من أوهام الإيديولوجيا والميثولوجيا البيضاء، وتحريره كذلك من فلسفة المركز، وتنويره بفلسفات الهامش والعرضي واليومي والشعبي.
 إعادة الاعتبار للسياق والنص الموازي:إذا كانت البنيوية والسيميائيات قد أقصت من حسابها السياق الخارجي والمرجعي، وقتلت الإنسان والتاريخ والمجتمع، فإن فلسفات (مابعد الحداثة)، قد أعادت الاعتبار للمؤلف والقارىء والإحالة والمرجع التاريخي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي، كما هو حال نظرية التأويلية، وجمالية التلقي، والمادية الثقافية، والنقد الثقافي، ونظرية مابعد الاستعمار، والتاريخانية الجديدة...

 تحطيم الحدود بين الأجناس الأدبية:

 إذا كانت الشعرية البنيوية تحترم الأجناس الأدبية، حيث تضع كل جنس على حدة تصنيفا وتنويعا وتنميطا، فتحدد لها قواعدها وأدبيتها التجنيسية، فإن (مابعد الحداثة) لاتعترف بالحدود الأجناسية، فقد حطمت كل قواعد التجنيس الأدبي، وسخرت من نظرية الأدب. ومن ثم، أصبحنا - اليوم- نتحدث عن أعمال أو نصوص أو آثار غير محددة وغير معينة جنسيا.

الدلالات العائمة:

 تتميز نصوص وخطابات (مابعد الحداثة) عن سابقتها الحداثية بخاصية الغموض والإبهام والالتباس. بمعنى أن دلالات تلك النصوص أو الخطابات غير محددة بدقة، وليس هناك مدلول واحد، بل هناك دلالات مختلفة ومتناقضة ومتضادة ومشتتة تأجيلا وتقويضا وتفكيكا، كما يتضح ذلك جليا في المنظور التفكيكي عند جاك ديريدا. وبتعبير آخر، يغيب المعنى، ويتشتت عبثا في كتابات (مابعد الحداثة).
 مافوق الحقيقة: تنكر فلسفات مابعد الحداثة وجود حقيقة يقينية ثابتة، فجان بودريار - مثلا - ينكر الحقيقة، ويعتبرها وهما وخداعا، كما ذهب إلى ذلك نيتشه (Neitsze) الذي ربط غياب الحقيقة بأخطاء اللغة وأوهامها. بينما يربط بودريار الحقيقة بالإعلام الذي يمارس لغة الخداع والتضليل والتوهيم والتفخيم.

التخلص من المعايير والقواعد:

 مايعرف عن نظريات (مابعد الحداثة)، في مجال الأدب والنقد، تخلصها من النظريات والقواعد المنهجية، إذ يسخر ميشيل فوكو من دارس ينطلق من منهجيات محددة يكررها دائما، ويحفظها عن ظهر قلب. لذا، فهو يرى النص أو الخطاب عالما متعدد الدلالات، يحتمل قراءات مختلفة ومتنوعة، كما يرفض ديريدا أن تكون له منهجية نقدية أدبية في شكل وصفة سحرية ناجحة لتحليل النص الأدبي؛حيث لا يوجد المعنى أصلا مادام مقوضا ومفككا ومشتتا، فما هناك سوى المختلف من المعاني المتناقضة مع نفسها كما يقول جاك ديريدا.

المبحث الرابع: رواد ما بعد الحداثة

من المعلوم أن لـ( مابعد الحداثة) روادا ومنظرين وفلاسفة ونقادا، ومن بين هؤلاء نستحضر الفيلسوف الفرنسي جان بودريار (Jean Baudrillard) (1929-2007م) الذي اشتهر بنقده للتكنولوجيا الحديثة والإعلام. ومن ثم، فقد أدلى جان بوديريار بمجموعة من المفاهيم، كالحقيقة العائمة، ومافوق الحقيقة، والاهتمام بالخيال العلمي، والعناية بالعوالم الافتراضية غير المتحققة. ومن هنا، فقد انتقد العلاقة بين الدال والمدلول عند فرديناند دوسوسير، حيث أنكر - كجاك ديريدا - وجود معنى واضح، بل قال بالدلالات العائمة أو المعنى المغيب. ومن هنا، " فقد رفض التمييز بين المظاهر والحقائق الكامنة وراء هذه المظاهر. وبالنسبة له، انهارت أخيرا الفوارق بين الدال والمدلول.ولم تعد العلامات تشير إلى مدلولات بأي معنى معقول، حيث يتكون العالم الحقيقي من الدلالات العائمة. وقد شرح بوديار هذه الأفكار في عمله( التظاهرات والمحاكاة ) (1981م)." 
هذا، وقد أنكر جان بودريار، مثل: الفيلسوف الألماني نيتشه، وجود الحقيقة مادامت ترتبط ارتباطا وثيقا باللغة والخطإ والظن والمبالغة المجازية والبلاغة التخييلية ووسائل الإعلام. ومن ثم، فقد قال بودريار بمفهوم ( مافوق الحقيقة):" يتولد مفهوم مافوق الحقيقة، حيث يكون شيء ما حقيقيا فقط عندما يتحرك ضمن نطاق وسائل الإعلام. وتولد تكنولوجيات الاتصال في "مابعد الحداثة" الصور العائمة بشكل حر، حيث لايمكن لأحد أن يعيش أي تجربة إذا لم تكن بصيغة مشتقة. وقد أخذت تجربة العالم للعبث مكان أي ثقافة مميزة، وأصبح للعبث لهجة واحدة فقط: تلك التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد أصبحت كتابات بودريار (على سبيل المثال:( إستراتيجيات فادحة) و( وهم النهاية)) عدمية بشكل متزايد: فقد أصبحت العلامات بلا معنى بسبب تكرارها واختلافها اللذين لاينتهيان...وقد قادت آراؤه المتطرفة إلى العبارة الشهيرة- التي اجتذبت انتقادات قاسية- أن حرب الخليج عام 1991م لم تكن حقيقية، بل كانت حدثا إعلاميا:" إنها غير حقيقية، إنها حرب دون أعراض الحرب". وهذا ماقاد العديد للشك في أن بودريار نفسه قد ابتعد إلى مافوق الحقيقة، ولم يعد يسكن جسدا دنيويا. " 
وعليه، فقد دفعه مفهوم مافوق الحقيقة إلى الاهتمام بالعوالم التخييلية والافتراضية. وفي هذا الصدد، يقول دافيد كارتر:"لايرى بورديار في حججه أي تفاصيل محددة عن السياقات الثقافية أو الاجتماعية. وليس في كتابة قصص الخيال العلمي والروايات الخيالية. وقد برهن بعضهم أيضا أن العديد من أفكاره قد استبقت في مثل هذه الأعمال. كتب بودريار نفسه مقالا يمدح كاتب الخيال العلمي ج. جي بالارد. وكما سبق الإشارة إليه وجدت رؤيته للعالم أصداء في السينما، وخصوصا في هذا النوع من الأفلام الذي يصبح فيه الواقع الافتراضي غير مميز عن العالم الحقيقي، وأيضا في مفهوم "السايبورغ"،وهو هجين من البشر والتكنولوجيا." 

ونستدعي أيضا من رواد (مابعد الحداثة) المفكر الفرنسي جان فرانسوا ليوتار (Jean-François Lyotard) (1924-1998م) الذي أنكر الحقيقة مثل: نيتشه، وخاصة في كتابه( حالة مابعد الحداثة) (1979م). ففي هذا الكتاب،" يجادل ليوتار أن المعرفة لايمكنها أن تدعي أنها تقدم الحقيقة في أي معنى مطلق؛ لأنها تعتمد على ألاعيب اللغة التي هي دائما ذات صلة بسياقات محددة. وهنا، نجد أن ليوتار مدين بالفضل الكثير لنيتشه وفيتغنشتاين، حيث يدعي أن أهداف التنوير في تحرير الإنسان، وانتشار المنطق لم ينتج سوى نوع من العجرفة العلمية. وقد رفض يورغن هابرماس قبول هذا التقييم لمصير أهداف التنوير، حيث يعتقد أنها لاتزال قابلة للحياة." 

هذا، وقد ثار ليوتار على التمركز العقلي على غرار رواد الفلسفة التفكيكية (جاك ديريدا مثلا)، منتقدا هيمنته، واستغلاله، وانغلاقه، وسطوته على الفن والحياة، حيث "يقدم ليوتار ملاحظة في كتابه(الخطاب والشخصية) (1971م) بأن البنيوية قد تجاهلتها. فقد ميز ليوتار بين ما" يرى" ويفهم وهو البعد الثالث. أي: الشكل، وبين مايقرأ في النص ذي البعدين. ويناقش ليوتار مستشهدا بفوكو أن ما يعد تفكيرا عقلانيا من قبل المفكرين الحداثيين هو، في الواقع، شكل من أشكال السيطرة والهيمنة. وبالنسبة لليوتار المستوى "الشكلي "، الذي يبدو أنه يضم ما يشبه الرغبة الجنسية عند فرويد أو قوة الرغبة، يكتسب معنى موحدا من خلال عمليات التفكير العقلاني، وينتقد ويزعزع ويقلق الفن، من جهة أخرى.أي: معنى من معاني الانتهاء والانغلاق." 
وأهم مايطرحه جان فرانسوا ليوتار، في إطار (مابعد الحداثة) النقدية الأدبية، هو التخلص من القواعد النظرية والمعايير التطبيقية في لحظة الممارسة النقدية. بمعنى أن يتحرر النقد الأدبي من الالتزام بالقواعد المنهجية والمعايير المسبقة. وفي هذا النطاق، يقول دافيد كارتر:" وأحد تلميحات ليوتار عن (مابعد الحداثة)، وهو أمر هام بالنسبة للإجراءات التي اعتمدها النقد الأدبي، هو أن التحليل يجب أن يمضي قدما دون أي معايير محددة مسبقا، حيث يتم الكشف عن المبادىء والقواعد المنظمة في عملية التحليل." 
ويعد جاك ديريدا (JacquesDerrida) كذلك من أهم فلاسفة (مابعد الحداثة)، إذ اهتم بتفكيك الثقافة الغربية تشتيتا وتأجيلا، وتقويض مقولاتها المركزية بالنقد والتشريح بغية تعرية المؤسسات الغربية المهيمنة، وفضح الميثولوجيا البيضاء المبنية على الهيمنة والاستغلال والاستعمار والتغريب والإقصاء. ومن ثم، فقد ثار دريدا على مجموعة من المقولات البنيوية، كالمدلول والصوت والنظام والبنية، وغيرها من المفاهيم، ودعا إلى تعويض الصوت بالكتابة، كما ارتأى أن مدلول العلامة ليس مدلولا واحدا، بل هو عبارة عن مدلولات مختلفة، وأن المعنى لايبنى على الإحالة المرجعية، بل على الاختلاف بين المدلولات المتناقضة. ولايحب ديريدا القواعد والتعاريف والمعايير والمنهجيات الثابتة. لذا، فالتفكيكية منهجية، وليست منهجية، لها خطوات، وليس لها خطوات، هي ما بين بين، بين الداخل والخارج. ما يهمها هو تفكيك الفكر والنص والخطاب، عبر آلية التشتيت والتقويض والهدم لبناء المعاني المختلفة والمتناقضة، والتشكيك في المسلمات اليقينية، ودحضها عن طريق النقد والتشريح والاختلاف. 
هذا، وقد انتقد جاك ديريدا الميتافيزيقا الغربية التي تمثل الحضور واللغة والدال الصوتي. ومن ثم، قوض مجموعة من المفاهيم السائدة، مثل: الهوية، والجوهر، واللوغوس، والعلامة، والمدلول، والظاهرة، والنظام، والكلية، والعضوية، والجوهر، والذكاء، والحساسية، والواقعية، والحقيقة، واليقين، والثقافة، والطبيعة، والتمظهر، والخطإ، والكلام،...
هذا، ويعد ميشيل فوكو(Foucault) كذلك من رواد (مابعد الحداثة)، وقد اهتم كثيرا بمفهوم الخطاب والسلطة والقوة، إذ كان يرى أن الخطابات ترتبط بقوة المؤسسات والمعارف العلمية. بمعنى أن المعارف، في عصر ما، تشكل خطابا يتضمن قواعد معينة يتعارف عليها المجتمع، فتشكل قوته وسلطته الحقيقية. وبتعبير آخر، إن لكل مجتمع قوته وسلطته، ويتم التعبير عن تلك السلطة بالخطاب والمعرفة، وهذا مايوضحه فوكو في كتابه( نظام الخطاب) (1970م). ويرى فوكو أن ثمة علاقة وثيقة بين المعرفة والقوة، وأن الخطاب حول الإنسان قديم، وقد أصبح الخطاب في القرن التاسع عشر خطابا حول الإنسان بامتياز. ويتأثر فوكو بنتشه حين يبين مدى ترابط المعرفة بالقوة وسلطة المجتمع، وأن الحقيقة قوة وسلطة. ومن ثم، فقد قرأ المعرفة الإنسانية في ضوء تحليلات حفرية وجينيالوجية في علاقتها بالسلطة. كما ثار ميشيل فوكو على الفلسفة الغربية وتقسيماتها الكلاسيكية. بمعنى أنه قوض الأوهام الفلسفية، وارتأى أن من يمتلك العلم والمعرفة يمتلك السلطة. ويدرس فوكو، في كتابه( المراقبة والعقاب)(1975م)، نظام السلطة باعتبارها مؤسسة مهيكلة ومنظمة، وجهازا للضبط والتأديب والعقاب. وهي كذلك تعبير عن المجتمع الليبرالي، وقد تأثر فوكو في ذلك بأعمال بنتهام (Bentham). وقد بين فوكو في هذا الكتاب أننا قد انطلقنا تاريخيا من مرحلة مراقبة الأجساد إلى مرحلة مراقبة العقول والسلوكيات. ويعني هذا أن الدولة مبنية على قوة السلطة والتأديب والانضباط، ومراقبة الأفراد أجسادا وعقولا وسلوكيات. ومن هنا، فإن السجن - مثلا- نموذج لقوة السلطة الليبرالية وقوة الدولة وهيبتها. ويعني هذا أن فوكو يدعو إلى تحرير الإنسان من السلطة، وتخليصه من قوة الدولة المؤسساتية.

وعليه، يرتبط فوكو بفلسفة السلطة ارتباطا وثيقا، ويدافع عن حرية الذات، ويبين أن كل عصر ينتج خطابه المنظم والمهيمن. ومن ثم، يعلن نظام الخطاب حقيقة العالم، ويجسد معاييره اليقينية الثابتة. 
هذا، ولقد اهتم فوكو كثيرا بتحليل الخطاب، ورفض التقيد بالمناهج الجاهزة، واستعمال آليات مكررة، واعتبرها بمثابة علبة للمفاتيح. فالنص منفتح ومتعدد، لايمكن قراءته قراءة أحادية فقط. ويعني هذا أن فوكو يؤمن بتعدد القراءات، واختلافها من ناقد إلى آخر. وقد اهتم أيضا بمواضيع جديدة كالجنوسة والنظريات الجنسية. وقد كان أكثر الكتاب والفلاسفة الفرنسيين تأثيرا في الثقافة الأنجلوسكسونية.
ومن جهة أخرى، اهتم جيل دولوز(Gilles Deleuze) بالتعددية، والانفتاح على الآخر إدراكا وتفاعلا، إذ اعتبر الفلسفة خطابا قائما على التعددية. ومن ثم، فقد انتقد الهوية وفلسفة الواحد والتطابق. كما انتقد دولوز مجموعة من الفلاسفة، كدافيد هيوم، وبرجسون، وليبنز، وسبينوزا. وخصص الأنطولوجيا بدراسات فلسفية عميقة. وقد سخر فلسفته منطلقا لفهم الأدب والفن والسياسة. وبعد ذلك، تحدث عن الحقل الاجتماعي، وصاغ أنطولوجية ملموسة للفعل والحدث. وقد آمن جيل دولوز بالتعددية والاختلاف، بعد أن تأثر في ذلك بأطروحات برغسون (Bergson) الحدسية حول الديمومة والزمان والمحايثة والتعددية. وقد اهتم دولوز بفلسفة التأسيس في كتابه(الاختلاف والتكرار)، وتحدث عن التعددية في إطار الاختلاف، والتعددية- كما هو معلوم - نقيض فلسفة الهوية. ومن ثم، يربط فلسفة التأسيس بالديمقراطية كفضاء لتحقيق الاختلاف، ويعتبر الديموقراطية النظام المناسب للتطور الحالي للمجتمع. وبالتالي، ففكر التأسيس والاختلاف هو فكر يناقض فكر الهوية والوحدة والإقصاء والتغريب. 

المبحث الخامس: نظريات مابعد الحداثة

 ثمة مجموعة من النظريات الأدبية والنقدية والثقافية التي رافقت مرحلة (مابعد الحداثة)، مابين سنوات السبعين والتسعين من القرن العشرين. وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى التأويلية، ونظرية التلقي أوالتقبل، والنظرية التفكيكية، والنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، ونظرية النقد الثقافي، والنظريات الثقافية، والنظرية الجنسية، ونظرية الجنوسة، والنظرية التاريخانية الجديدة، والنظرية العرقية، والنظرية النسوية، والنظرية الجمالية الجديدة، ونظرية مابعد الاستعمار، ونظرية الخطاب (ميشيل فوكو)، والمقاربة التناصية، والمقاربة التداولية، والمقاربة الإثنوسينولوجية، والمقاربة المتعددة الاختصاصات، والفينومينولوجيا، والنقد البيئي، والنقد الجيني، والنقد الحواري، والمادية الثقافية، وسيميوطيقا التأويل، وسيميوطيقا الأهواء...
هذا، وقد ظهرت النظرية الإسلامية، في الحقل الثقافي العربي، في الفترة نفسها التي ظهرت فيها نظريات (مابعد الحداثة)، في مجالات النقد والأدب والفن، لكن حداثتها تكمن في دعوتها إلى النظام والانسجام والاعتدال والوضوح، والانطلاق من الثقافة الربانية، واستلهام التصور الإسلامي في الأدب والنقد وجودا ومعرفة وقيمة. وبالتالي، فهي نظرية أخلاقية متوازنة تهدف إلى البناء، والتأسيس، والتنوير، وتحرير الإنسان من الأوهام الإيديولوجية،وإنقاذه من الضلالة والوثنية والعبثية. كما أنها نظرية لاتؤمن بفلسفات التقويض والتشتيت والاختلاف. وتسعى جاهدة للتعمير، والتغيير، وتخليق الإنسان على أسس أخلاقية صحيحة مستمدة من المصدر الرباني اليقيني.

المبحث السادس: الإيجابيات والسلبيات

لنظرية (مابعد الحداثة) إيجابيات وسلبيات كباقي الظواهر والنظريات الثقافية، وباقي المناهج النقدية الأدبية. ومن ثم، لايمكن الحديث عن الكمال والتمام في العلوم الإنسانية إطلاقا؛ لأن الأفكار والمناهج والتصورات تتناسخ وتتناسل وتتوالد تناصا وتقويضا وتفكيكا وتأجيلا وتشتيتا. ومن إيجابيات (مابعد الحداثة) أنها حركة تحررية تهدف إلى تحرير الإنسان من عالم الأوهام والأساطير، وتخليصه من هيمنة الميثولوجيا البيضاء. كما تعمل فلسفات (مابعد الحداثة) على تقويض المقولات المركزية للفكر الغربي، وإعادة النظر في يقينياتها الثابتة عن طريق التقويض والتشكيك والتشتيت والتشريح والهدم. والهدف من ذلك هو بناء قيم جديدة. ومن جهة أخرى، حاربت ثقافة النخبة والمركز، فاهتمت بالهامش والثقافة الشعبية، ثم انتقدت الخطابات الاستشراقية ذات الطابع الاستعماري بالنقد والتفكيك والتحليل.
 كما آمنت نظرية مابعد الحداثة بالتعددية والاختلاف وتعدد الهويات، وأعادت الاعتبار للسياق والإحالة والمؤلف والمتلقي، كما هو حال الهيرمينوطيقا وجمالية التلقي. واهتمت كذلك بالتناص والاختلاف اللوني والجنوسي والعرقي، وعملت على إلغاء التحيزات الهرمية والطبقية، واحتفت بالضحك، والسخرية، والقبح، والمفارقة والغرابة. واعتنت كذلك بالعرضية، والهامش، والمدنس، وانزاحت عن الأعراف والقوانين والقيم الموروثة. واستسلمت للغة التشظي والتفكك واللانظام، ونددت بالمفاهيم القمعية القسرية وسلطة القوة... 
بيد أن من أهم سلبيات ما بعد الحداثة اعتمادها على فكرة التقويض والهدم والفوضى، إذ لاتقدم للإنسان البديل الواقعي والثقافي والعملي، فمن الصعب تطبيق تصورات (مابعد الحداثة) واقعيا لغرابتها وشذوذها. و"بذلك، استهلكت (مابعد الحداثة) قدرتها الإستراتيجية الفعالة في إبراز التحيزات المجحفة، دون أن يكون لها موقف أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي. ويعجب المرء من المفارقة بين قوتها العدائية ضد التحيزات والنهاية المحايدة التي تنجم عن مثل هذه الحرب الضروس. ولعل مثل هذه النهاية هي التي دعت الكثير إلى توجيه أصابع الاتهام. فهناك من يقول: إن هذه السمة ذاتها هي التي تجعل "مابعد الحداثة" متواطئة مع الأشكال الشمولية القمعية التي تسعى إلى الهيمنة والسيطرة والظلم الاجتماعي الاقتصادي. لاغرو والحالة هذه أن تدخل "مابعد الحداثة" مجال العلوم الإنسانية حديثا جدا، وحتى هذا الدخول لم يتسم بالفعالية نفسها التي عرفتها في الفن والأدب والموسيقا والاستعراضات المسرحية وغيرها من مشارب الحياة اليومية التي لايترتب عليها اتخاذ قرارات حاسمة تمس حياة الإنسان مباشرة. ولعل المفارقة القارة التي تجعلها عاجزة هي معاداتها للثنائية الضدية، إذ إن التضاد أساس المعرفة وأساس التحيز، وبدون التضاد لايمكن معرفة ما إذا كان توجه ما أفضل من غيره. ولذلك، فإن دفاع "مابعد الحداثة" عن الهامش جعلها تتقمص خصائصه، إذ انقلب على أهميتها، فأصبحت هامشية لا تغير من الواقع شيئا. وككل هامشي، أصبحت "مابعد الحداثة" تتمنى أن يتحقق الوئام فجأة، فتسود العدالة، وتختفي الطبقية الهرمية، ويختلط المركز بالهامش، وتلغى الفوارق من غير تحيز أو غاية. هذه هي الطوباوية التي تحلم بها كل المثاليات: حداثية كانت أو مابعد حداثية." 

ويلاحظ أن نظرية (مابعد الحداثة) تقوض نفسها بنفسها؛ نظرا لطابعها الفوضوي والعدمي والعبثي. وفي هذا السياق، يقول دافيد كارتر:" وقد اجتذبت (مابعد الحداثة) نقدا إيجابيا وسلبيا على حد سواء. فيمكن أن ينظر إليها على أنها قوة محررة إيجابية تزعزع استقرار الأفكار المسبقة عن اللغة وعلاقتها بالعالم، وتقوض جميع لغات الذات التي تشير للتاريخ والمجتمع. ولكن تعد حقبة "مابعد الحداثة" أيضا أنها تقوض افتراضاتها الخاصة، وتحجب جميع التفسيرات المترابطة. وبالنسبة للكثيرين تعد غير مؤثرة وغير ملتزمة من الناحية السياسية. وأحد الأنواع الأدبية الشائعة التي تمكن من الاعتراف الآني، وتفكك الأنماط الأدبية التقليدية. يحطم كتاب الحداثة الحدود بين الخطابات المختلفة، وبين القصص الخيالية وغير الخيالية، وبين التاريخ والسيرة الذاتية (ومثال ساطع على ذلك هو كتابات و.ج.سيبالد)."
وهكذا، يتضح لنا أن فلسفة ( مابعد الحداثة ) لها قيم إيجابية وقيم سلبية، بيد أن مايهم الإنسان في واقعه العملي هو التأسيس والـتأصيل، وليس التفكيك والتقويض، مع السعي الجاد إلى البناء الهادف، بدل الانغماس في عوالم افتراضية عبثية وعدمية وفوضوية.

وخلاصة القول، نستنتج، مما سبق ذكره، أن فلسفات (مابعد الحداثة) عبارة عن معاول للهدم والتقويض والتفكيك، و تعمل جاهدة على تحرير الإنسان من المقولات المركزية التي تحكمت في الثقافة الغربية لأمد طويل فلسفيا وأنطولوجيا ولسانيا، مع تخليصه من الميثولوجيا الغربية القائمة على الهيمنة، والاستغلال، والاستلاب، والتعليب، والتغريب، عن طريق التسلح بمجموعة من الآليات الفكرية والمنهجية، كالتشكيك في المؤسسات الثقافية الغربية، وفضح أوهامها الإيديولوجية، وتعرية خطاباتها القمعية المبنية على السلطة والقوة والعنف، وإدانة خطابها الاستشراقي الاستعماري (الكولونيالي)، ومحاربة التمييز العرقي واللوني والجنسي والثقافي والطبقي والحضاري.
بيد أن لــ( مابعد الحداثة) كذلك عيوبها الخطيرة. ومن أهم هذه العيوب أنها نظرية عبثية وفوضوية وعدمية وتقويضية، تساهم في تثبيت أنظمة الاستبداد والقمع والتنكيل، وتجعل من الإنسان كائنا عبثيا فوضويا لاقيمة له في هذا الكون المغيب، يعيش حياة الغرابة والشذوذ والسخرية والمفارقة، ويتفكك أنطولوجيا في هذا العالم الضائع بدوره تشظيا وضآلة وانهيارا وتشتيتا. 

الفصل الثالث:
التصور المنهجي

لاشك أن نظرية الأنساق المتعددة مقاربة أدبية أكثر مما هي مقاربة سوسيولوجية، كما يتضح ذلك جليا عند بييربورديو الذي ربطها بالحقل المجتمعي والهابيتوس. بمعنى أن هذه النظرية ذات توجه أدبي وثقافي وسيميوطيقي. وبالتالي، فهي ليست مقاربة انطباعية تربط الأدب بذاتية المبدع، أو مقاربة إجرائية عملية جزئية، بل هي عبارة عن نموذج كوني بامتياز، يدرس الظواهر الأدبية والثقافية في تطورها من جهة، وفي علاقاتها التفاعلية الداخلية والخارجية من جهة أخرى. وتستند هذه المقاربة الكونية إلى الوصف والتفسير معا.أي: إن نظرية الأنساق المتعددة مقاربة ثقافية بشكل حصري، على غرار سيميوطيقا الثقافة عند يوري لوتمان(Y.Lotman). 

المبحث الأول: مفهوم المقاربة النسقية المتعددة

تعد الأنساق المتعددة مقاربة منهجية لدراسة الظواهر الثقافية والأدبية واللسانية بغية استكشاف مختلف الأنساق المضمرة أو الجلية، في إطار ثنائية المركز والمحيط. ومن ثم، لاتعترف المقاربة النسقية المتعددة بالحدود المحلية أو الوطنية أو الدولية. ولا تعنى كذلك بالحواجز السياسية أو اللسانية أو الإثنية والعرقية، بل تدرس هذه الظواهر كلها ضمن نسقية متعددة ومركبة، برصد مختلف العلاقات القائمة إن داخليا، وإن خارجيا. بمعنى أنها ليست مقاربة إقصائية أو تمييزية أو مركزية كما هو حال المقاربات التقليدية ، بل هي مقاربة عالمية وكونية، مثل اللسانيات التوليدية التحويلية لنوام شومسكي (N.Chomsky) ذات البعد الكوني.
ويلاحظ أن نظرية الأنساق المتعددة عبارة عن مقاربة وظيفية، همها الوحيد هو اكتشاف القواعد والقوانين التي تتحكم في الظواهر الثقافية والأدبية، في تعددها وتنوعها وتداخلها وتعقدها وثرائها، بالإضافة إلى تحديدها وتصنيفها. 
ومن ثم، تتمثل الفكرة الجوهرية للنظرية في تحديد دور عنصر ما ووظيفته ومكانته وقيمته في علاقة بباقي العناصر الأخرى، عبر مختلف العلاقات التي يربطها فيما بينها. بمعنى أن المقاربة تركز كثيرا على المبدإ والوظيفة والعلاقات على حد سواء. ومن ثم، تشدد نظرية الأنساق المتعددة على الخاصية الديناميكية على المستويين السانكروني والدياكروني.
ويدل هذا على أن النظرية عبارة عن مقاربة بنيوية وظيفية وديناميكية، تجمع بين البنية والوظيفة من جهة أولى، أو بين الداخل والخارج من جهة ثانية، أو بين الثبات والتحول من جهة ثالثة. ومن هنا، فالأدب عبارة عن مجموعة من العلاقات التي تتم بين مجموعة من الأنشطة المسماة بالأدبية، كأن نعرف علاقة نسق الأدب العام بنسق الترجمة، أو نسق أدب الأطفال، أو أدب الشباب، أو الأدب المقارن، أو الأدب الشعبي...بدراسة هذه الأنساق الفرعية المختلفة والمتنوعة، ضمن شبكة من العلاقات التفاعلية إيجابا أو سلبا .علاوة على ذلك، تؤمن المقاربة المتعددة بوجود نسق عام، يتفرع إلى مجموعة من الأنساق الفرعية المركزية والهامشية، أو الرئيسية والمحيطة، أو المجددة والمحافظة...
وتتميز هذه الانساق بثلاث خاصيات أساسية هي: الدينامية، والانفتاح، والتهجين. وبالتالي، تخضع هذه الأنساق للتراتبية والتفاوت والهرمية؛ بسبب اختلاف سجلاتها النسقية التي تتضمن مجموعة من القواعد والمعايير والقوانين الأصولية التي تميز نسقا رفيعا من نسق منحط، أو تميز النسق المركزي من النسق الهامشي...وهذه السجلات المقننة المعيارية هي نتاج الثقافة السائدة في فترة زمنية ما، ويسهر عليها الأفراد والجماعات والمؤسسات...
وتخضع الأنساق للصراع والتطاحن والتنافس والضغوطات والتوترات بهدف إثبات الذات، والحصول على الشرعية المؤسساتية، والهيمنة على المركز. ويكون هذا الصراع من داخل النسق نفسه، أو يكون صراعا خارجيا مع باقي الأنساق المتنافسة الأخرى، ضمن ما يسمى بصراع المركز مع الهامش أو المحيط. والدليل على ذلك الصراع التاريخي الأبدي بين المقلدين والمجددين، أو بين الأنساق الأولية والثانوية.

المبحث الثاني: الخطوات المنهجية

 تنبني المقاربة المتعددة الأنساق على وصف الظواهر الأدبية وتفسيرها بنية وعلاقة ووظيفة وتطورا، في ضوء مجموعة من المستويات الثنائية. 
ويمكن تحديد الخطوات المنهجية التي تعتمد عليها هذه المقاربة على النحو التالي:
  •  تحديد الظواهر الأدبية والثقافية ذات الطبيعة المركبة والمتعددة والمتنوعة؛
  •  تصنيف هذه الظواهر ضمن أنساق مركزية وفرعية، وفق السجلات المعيارية والمقننة.
  •  التمييز بين الأنساق المركزية والهامشية، أو بين أنساق النواة وأنساق المحيط، أو بين الأنساق الأولية والثانوية، أو بين الأنساق العامة والخاصة، أو بين الأنساق المحافظة والمجددة، أو بين الأنساق المهيمنة والخاضعة، أو بين الأنساق المحلية والوطنية والكونية، انطلاقا من خاصية التقنين والنمذجة الأصولية والمعيارية.
  •  وصف الأنساق المرصودة، بالتركيز على كيفية اشتغالها وتطورها بغية رصد القواعد المتحكمة في ذلك؛
  •  تفسير هذه الظواهر الثقافية والأدبية بنية ووظيفة، من الداخل والخارج معا؛
  •  الاهتمام بالوظيفة والعلاقة في مقاربة الأنساق الأدبية والثقافية؛
  •  تبيان مختلف العلاقات والتفاعلات الداخلية التي توجد بين عناصر الأنساق المندرجة ضمن حقل ثقافي معين، مع رصد مختلف العلاقات البينية التي يجريها النسق مع باقي الأنساق الفرعية الأخرى التي تنتمي إلى المحيط الخارجي، كعلاقة نسق الأدب، مثلا، بنسق السياسة، ونسق الاقتصاد، ونسق المجتمع، ونسق التربية، ونسق الفلسفة، ونسق الدين...؛
  •  دراسات مختلف العلاقات الموجودة بين الأنساق المركزية والفرعية، لا على أساس الانعكاس الجدلي، بل على أساس التماثل(Homologie) القائم بين الظواهر الأدبية والثقافية من جهة، والبنى التحتية السياسية والاقتصادية والمجتمعية والدينية والتاريخية من حهة أخرى ؛
  • ربط نظرية الأنساق المتعددة بسوسيولوجيا الثقافة بشكل خاص؛
  •  مقاربة الترجمة الأدبية ضمن توجه وصفي موضوعي، بالتركيز على النص الهدف، ومراعاة ثقافة المستقبل.

وللتبسيط أكثر، تهدف نظرية الأنساق المتعددة إلى دراسة البنيات الأدبية في بعديها البنيوي الثابت والتاريخي، بوصف النصوص والظواهر الفنية والجمالية والأدبية فهما وتفسيرا، أو بنية وعلاقة ووظيفة.ومن ثم تعنى هذه المقاربة بدراسة الأجناس الأدبية باعتبارها أبنية وأنساقا خاضعة للتطور الأدبي والتاريخي.علاوة على ذلك، تحدد هذه المقاربة المهيمن والخاضع، أو المسيطر والمسيطر عليه، مع تحديد المعايير المعتمدة في ذلك . 
كما تعنى بتحديد النماذج المهيمنة وغير المهيمنة في الحقل الثقافي، مع تبيان النماذج والمعايير والأنساق المتحكمة في الساحة الثقافية التي تطرح أسئلة جادة ومؤرقة، وتبيان الظواهر التي تحتل موقعا مركزيا والظواهر التي توجد على الهامش. 
وتهتم نظرية الأنساق المتعددة أيضا بتبيان مختلف العلاقات البينية التي تتحكم في الأنساق التي تنتمي إلى حقل ثقافي متجانس أو مشترك. وفي الوقت نفسه، تهتم بالعلاقات الكونية أو العابرة للحدود التي تفصل بين الأنساق المحلية والوطنية والكونية. وقد تعنى كذلك بالعلاقات التفاعلية الموجودة بين أنساق المركز وأنساق المحيط وصفا وتفسيرا.
وتؤمن النظرية كذلك بتعدد الأنساق، وتعدد النصوص، وتعدد الأجناس الأدبية، وتعدد اللغات، وتعدد الأساليب، وتعدد المرجعيات. ويعني هذا أنها نظرية كونية وعالمية، مثل: أفكار هيجل(Hegel)، وماركس(Hegel)، وشيلين (Schelling)، وكانط (Kant)، وهابرماس (Habermas)، وشومسكي (Chomsky)...
وتهدف هذه النظرية - التي جاءت رد فعل على نظرية النسق- إلى وصف المجتمع المعاصر على أساس أنه نسق دينامكي، في إطار سياق تطوري، مع توظيف مجموعة من المصطلحات النقدية، مثل: التعددية، والتهجين، والتنوع، والتداخل، والتركيب، والبوليفونية، والأنساق، والأنساق المتعددة، والتجاور، والتلاقي، والانتقاء، والنفي، والإنشاء الذاتي، والإحالة الذاتية، والتواصل، والاختلاف...
أضف إلى ذلك أن النسق الكلي يتكون من أنساق فرعية مختلفة متعددة، وقد يكون الفرع نسقا من جهة، ومحيطا من جهة أخرى. ومن ثم، هناك أنساق متفاوتة (العلوي والسفلي، والمقدس والمدنس، والعام والخاص، والذات والموضوع، والوعي والعالم...). ومن ثم، يدخل النسق في علاقة خاصة بمحيطه من جهة، و الأنساق الحاضرة من جهة أخرى. 
وللتمثيل، يحتل الاقتصاد في حقله أو مجاله الخاص به مكانة متميزة.لكن حضور نسق الاقتصاد في الأدب له دور ثانوي ليس إلا. وينطبق هذا على باقي الأنساق الفرعية الأخرى، مثل: النسق السياسي، والنسق المجتمعي، والنسق الثقافي، والنسق الديني.أي: لابد من التمييز في النص الأدبي - مثلا- بين النسق الأساسي والأنساق الفرعية التي لها دور ثانوي ومكمل. كأن يكون النسق التخييلي الأدبي هو المهيمن، ويتفرع إلى أنساق فرعية، مثل: النسق الصوفي، والنسق الفلسفي،والنسق الديني، والنسق الثقافي، والنسق الاقتصادي، والنسق السياسي...أي: لابد من التمييز بين النسقين: المركزي والمحيط. ولابد كذلك من رصد خصائص المركز واختلافه عن المحيط، ضمن رؤية تمييزية اختلافية (القيم الخلافية) .
ومن ثم، فنظرية النسق عبارة عن ظاهرة ثقافية واجتماعية بامتياز، تعكس لنا ثنائية المركز والمحيط، أو تفرز لنا تعددية في أنساق الأدب والفن. ولاينبغي دراسة هذه التعددية بطريقة منعزلة ومحايدة ومجردة، بل لابد من ربطها بمحيطها وسياقها التاريخي والثقافي والاجتماعي؛ لأن الأدب شبكة من الأنساق الاجتماعية والثقافية، يتقاطع فيها النسق المركزي مع النسق الهامشي.ويلاحظ أن نظرية الأنساق مرتبطة كثيرا بالسيميوطيقا من ناحية، وسوسيولوجيا الثقافة من ناحية أخرى. 

المبحث الثالث: الإشكاليات المنهجية

تطرح نظرية الأنساق المتعددة إشكاليات وأسئلة عدة على المستوى المنهجي، مثل:هل يمكن الحديث عن أنساق أدبية وثقافية؟ وما طبيعة هذه الأنساق؟ وكيف يمكن تصنيفها وتفريعها وتمييزها وتحديدها؟ وهل هذه الأنساق مغلقة أم منفتحة؟ وهل هي ثابتة أم ديناميكية؟ وهل هي أنساق نقية أم مهجنة؟ وما هي مختلف السجلات التي نحتكم إليها في تقويم الأنساق؟ وما العلاقات التي توجد بين مختلف الأنساق على مستوى الداخل والخارج؟ ولماذا الانتقال من المحلي والوطني إلى العالمي والكوني على مستوى العلاقات بين الأنساق؟ وكيف يمكن دراسة الأدب والثقافة والترجمة واللسانيات وفق نظرية الأنساق المتعددة؟ ما علاقة هذه النظرية بسوسيولوجيا الثقافة؟ وما مميزات المنهجية التي تستند إليها نظرية الأنساق المتعددة؟ وما أهم الأدوار الثقافية والأدبية التي تقوم بها الترجمة الأدبية؟ وما هي المقاربة المفضلة لدراسة الترجمة الأدبية؟ وما علاقتها بالأدب المقارن؟ وما خطواتها الإجرائية نظرية وممارسة وتطبيقا؟
وهكذا، يتبين لنا أن نظرية الأنساق المتعددة هي مقاربة بنيوية وتاريخية للأدب،وتجيب عن مجموعة من الأسئلة المؤرقة التي طرحها الشكلانيون الروس والبنيويون اللسانيون من قبل. 

المبحث الرابع: اقتراحات منهجية

يمكن اقتراح مجموعة من التوصيات المنهجية في دراسة الأنساق المتعددة في مجال الثقافة بصفة عامة، والأدب بصفة خاصة: 
  1. تأسيس تاريخ الأدب ضمن تصور نقدي جديد، يقوم على رصد تطور الأنساق الأدبية وتفاعلها فيما بينها؛
  2.  تحديد وظائف هذه الأنساق الأدبية المتعددة في مسار تاريخ الأدب؛
  3.   التمييز بين الأنساق المركزية والفرعية ضمن نظرية الأنساق المتعددة؛
  4.   دراسة النصوص الأدبية وفق أنساقها المتعددة بنية وعلاقة ووظيفة؛
  5.   دراسة الأجناس الأدبية بنية وتطورا وفق نظرية الأنساق المتعددة؛
  6.   الاشتغال على اللسانيات والأدب المقارن والترجمة وفق نظرية الأنساق المتعددة؛
  7.   تفسير الأنساق المتعددة وفق السميوطيقا من جهة، وسوسيولوجيا الثقافة من جهة أخرى؛
  8.   توجيه النقد الأدبي للبحث في الأنساق المتعددة التي تتضمنها النصوص والخطابات والأعمال والمنتجات الأدبية والفنية والثقافية؛
  9.   إعادة النظر في كتابات الشكلانيين الروس والبنيويين اللسانيين لبناء نظرية الأنساق المتعددة بطريقة واضحة ودقيقة وجلية؛
  10.   البحث عن العلاقات الموجودة بين الآداب المحلية والوطنية والعالمية في إطار تفاعلي كوني.


وخلاصة القول، تلكم-إذاً- أهم التصورات النظرية والمنهجية التي تتعلق بنظرية الأنساق المتعددة، وهي نظرية قابلة لتنزيلها إجرائيا وعمليا، مادامت ترتكز على عمليات الاستكشاف، والتسجيل، والتصنيف، والوصف، والتفسير، وتطبيقها إجرائيا في مجالات متعددة، كاللسانيات، والثقافة، والأدب، والترجمة، والسوسيولوجيا، والسيميولوجيا...

الفصل الرابع
مرجعيات نظرية الأنساق المتعددة

تنبني نظرية الأنساق المتعددة على مجموعة من المرجعيات النقدية واللسانية والثقافية والسوسيولوجية، ويمكن حصرها في ما يلي:
المبحث الأول: الشكلانية الروسية والاهتمام المبكر بالأنساق المتعددة
كان الشكلانيون الروس  سباقين إلى طرح نظرية الأنساق المتعددة، وخاصة مع بوريس إيخانباوم(Boris Eikhenbaum)، وبومورسكا(Pomorska)، وشلوفسكي(Chlovski)، ويوري تينيانوف(Tynianov)، ورومان جاكبسون(R.Jakobson)، ويوري لوتمان(Lotman)، وميخائيل باختين(Bakhtine)، ومدرسة تارتو (Tartu)الثقافية، قبل أن تنتقل عدواها إلى المنظرين المعاصرين كإيتيمار إيفان زوهار(Itimar Even Zoher) وفاندروزكا (Vandruska) وغيرهما.

المطلب الأول: فيكتور شلوفسكي

يرى فيكتور شلوفسكي أن تاريخ الأدب، أو نظرية الأدب، عبارة عن تطور في الأنساق الشكلية. ومن ثم، يتطور الأدب في إطار النظرية الجدلية الديناميكية القائمة على الصراع والتناقضات الكمية والكيفية. بمعنى أن هناك مدارس أدبية تتنافس فيما بينها، وقد يكون ذلك في فترة زمنية واحدة؛ حيث تحتل مجموعة منها الصدارة، ثم تضمحل الأخرى. لكن هذه المكانة المتقدمة لا تبقى دائما في ملك مدرسة معينة، بل يمكن للمدارس التي كانت في الهامش أن تحظى بالصدارة في فترة من الفترات. ولا يتحقق تطور المدارس الأدبية والفنية بالتدرج، بل بالتقاطع والتداخل؛ إذ يمكن في حقبة زمنية ما أن توجد مجموعة من المدارس، وليست مدرسة واحدة. وينطبق هذا التطور الجدلي على الأنواع والأجناس الأدبية التي تسود وتضمحل لتنبعث من جديد. 
وتتميز هذه الأجناس والأشكال الأدبية بقيمتها المهيمنة؛ كما يحدد ذلك رومان جاكبسون في مقاله عن (القيمة المهيمنة) . وقد تحدث شلوفسكي عن التطور الأدبي في كتابه عن (روزانوف)، "فيتناول - تقريبا في شكل استطراد حول الموضوع الرئيسي - نظرية كاملة عن التطور الأدبي. إن هذا الكتاب يعكس النقاشات النشطة التي كانت تدور في الأوبوياز حول هذه المسألة. ويشير شلوفسكي إلى أن الأدب يتقدم في خط متقاطع.. إن كل حقبة أدبية تتضمن مدارس متعددة، وليس مدرسة أدبية واحدة. وهذه المدارس تتواجد في الوقت نفسه داخل الأدب، غير أن واحدة منها تستولي على الصدارة، فيقع تقنينها، وتبقى المدارس الأخرى غير مقننة...
إن كل مدرسة أدبية جديدة تمثل ثورة، ظاهرة تشبه ظهور طبقة اجتماعية. غير أن هذا، بالطبع، إن هو إلا من قبيل التناظر. فالفرع المهزوم لا يقضى عليه، ولا يكف عن الوجود. إنه يغادر فقط الذروة، ويحال على قاعة انتظار؛ حيث يمكنه أن يبرز من جديد مثل مُطالِب بالعرش. إن الوضعية تتعقد في الواقع؛ ذلك أن الهيمنة الجديدة ليست مجرد استئناف للشكل القديم، بل إن مدارس أخرى صغيرة، بالإضافة إلى ملامح موروثة، تأتي لكي تثريها. غير أن هذه العوامل كلها لا تقوم إلا بدور مساعد. بهذه المناسبة، تم الحديث كذلك عن الصفة الديناميكية للأنواع، وشوهد في كتاب (روزانوف) ميلاد نوع جديد.. نمط روائي جديد، لا تترابط فيها الأجزاء بأي محفز. إن طابعه الموضوعاتي ينم عن تكريس موضوعات جديدة. أما طابعه التأليفي، فيتجلى كتعرية للنسق. إلى جانب هذه النظرية العامة، أدخل مفهوم الخلق الذاتي الجدلي للأشكال الجديدة، الذي يتضمن في ذاته، وفي الوقت نفسه، التناظر مع نمو متواليات ثقافية أخرى، والتأكيد على استقلال التطور الأدبي. إن الشكل المبسط لهذه النظرية قد عرف انتشارا سريعا، واكتسى، مثلما يحدث دائما، صفة الخطاطة المبسطة، الجامدة، والمربحة جدا بالنسبة للنقد. وفي الواقع، فإن ما عرضناه - هنا - لا يعدو أن يكون خلاصة للتطور، محاطة بعدد من التحفظات المعقدة. ولقد حوّل الشكلانيون هذه الخلاصة العامة إلى دراسة منهجية لقضايا ووقائع التاريخ الأدبي. وبذلك، جعلوا المقدمات النظرية الأولية ملموسة أكثر، وغنية أكثر."  
وعليه، يخضع التطور الأدبي لنظرية الصراع بين المركز والمحيط، أو الصراع بين الأضداد، أو يخضع للتطور الجدلي والديناميكي. وينطبق هذا الحكم، بالخصوص، على تطور الأنساق والأشكال والأجناس والأنواع والأنماط الأدبية.

الفرع الثاني: يوري تينيانوف

يتجاوز يوري تينيانوف ثنائية الشكل والمضمون، ويختار مبدأي الشكل والبناء. ومن ثم، ينظر إلى النص ضمن تصور منهجي نسقي كلي، تتفاعل فيه العناصر تفاعلا دينامكيا متكاملا ومترابطا، ضمن ما يسمى بالنظام المتعدد. ومن ثم، " يجب الإحساس بشكل الأثر الأدبي كشكل ديناميكي. وتظهر هذه الديناميكية في مفهوم مبدإ البناء. فليس يوجد تعادل فيما بين مختلف مكونات الكلمة، كما أن الشكل الديناميكي لا ينحل نتيجة اجتماع تلك المكونات أو اندماجها، ولكن نتيجة تفاعلها. وبالتالي، نتيجة ارتقاء مجموعة من العوامل على حساب مجموعة أخرى. إن العامل المرتقى يغير العوامل التي تغدو تابعة له. هكذا، يمكننا، إذاً، أن نقول بأننا ندرك الشكل، دائما، خلال تطور العلاقة فيما بين العامل المسيطر الباني والعوامل التابعة له." 
لكن تينيانوف لا ينظر إلى الأثر الأدبي إلا على أساس وحدة نسقية كلية ديناميكية، تتفاعل فيها العناصر، وتترابط إيجابا وسلبا.أي: "إن وحدة الأثر ليست كيانا تناظريا ومغلقا، بل تكامل ديناميكي له جريانه الخاص. إن عناصره لا ترتبط فيما بينها بعلامة تَسَاوٍ أو إضافة، وإنما بعلامة الترابط والتكامل الديناميكية." 
ويعني هذا أن تينيانوف يعنى كثيرا بالشكل والبناء والتحول والهيمنة؛ لأن هذه المفاهيم مهمة في مقاربة النص الأدبي مقاربة شكلانية موضوعية. أي: يقوم الفن على الصراع بين المسيطر والمسيطر عليه. ويتحقق، من خلال هذا الصراع الجدلي، التطور والتحول على مستوى العلاقات المتفاعلة إيجابا وسلبا. وهنا، لا يعني التطور ما هو زمني وتاريخي، بل التطور تطور شكلي، وليس زمنيا. أي: تطور نابع من البناء الداخلي، ضمن عمليات الصراع والتفاعل النصي. أي: تطور الأبنية والأنساق والأشكال. فقد يهيمن البعد النظمي والعروضي والإيقاعي على القصيدة مقارنة بالعناصر البنائية الأخرى البلاغية والدلالية والتركيبية: "إننا لسنا مضطرين إلى تضمين مفهوم التطور بعدا زمنيا؛ إذ بإمكاننا اعتبار التطور والديناميكية، في ذاتيهما، خارج الزمن، كحركة خالصة: فالفن يتغذى من هذا التفاعل ومن هذا الصراع. إن الواقعة الفنية لا توجد منفصلة عن إحساس كل العوامل بالخضوع والتبدل تحت تأثير العامل الباني، لكنْ إذا تلاشى الإحساس بتفاعل العوامل (ذلك الإحساس الذي يَفترض الحضور الضروري لعنصرين هما: المسيطر والمسيطر عليه) فإن الواقعة الفنية تمحي ويغدو الفن آلية. "
ويعني هذا كله أن تينيانوف يدعو إلى ربط البناء، أو الشكل، أوالنسق، أو النظام، بالتاريخ والتطور، على أساس أن الأشكال والأبنية تتطور فنيا وجماليا، على الرغم من ثباتها البنيوي القار. بمعنى أن ثمة بعض العوامل البنائية التي تتحكم في الأثر الأدبي في فترة ما، ثم تأتي أبنية شكلية أخرى لتهيمن على ذلك الأثر، ضمن نظرية المسيطر والمسيطر عليه. و"هكذا، يتم إدخال البعد التاريخي في مفهوم "مبدإ البناء"، وفي مفهوم "المادة"، مع أن التاريخ الأدبي يبرهن لنا عن استقرار هذه المبادئ الأساسية، واستقرار المادة. لقد كان النظام الوزني الجرسي لشعر لومونوسوف (Lomonossov) عاملا بنائيا، وفيما بعد، في زمن كوستروف (Kostrov)، تم إشراك ذلك العامل في نظام تركيبي ومعجمي معين؛ فضعف دوره المسيطر والمغيّر، وغدا الشعر آليا. ولقد استطاعت ثورة ديرجافين ((Derjavine أن تحطم ذلك الاشتراك؛ فحوّلته من جديد إلى تفاعل وصراع. أي: إلى شكل. ما يهم هنا هو أن الأمر يتعلق بتفاعل جديد، وليس فقط بإدخال عامل من العوامل. فالوزن، مثلا، يمكن أن يمحي عندما يلتحم، بصورة كلية طبيعية، بنظام جملة نبرية أو بعض العناصر المعجمية. فإذا جعلنا هذا الوزن متصلا بعوامل جديدة، فإننا نكون قد جدّدناه، وأيقظنا فيه إمكانيات بنائية جديدة... إن إدخال خطاطات وزنية جديدة يساهم، أيضا، في إعادة إقرار المبدإ الباني في الوزن."  
هذا، وقد كرس تينيانوف كل جهوده، بتنسيق مع رومان جاكبسون، لدراسة نظرية الأدب والأجناس الأدبية وفق مقولة الهيمنة الأدبية، بالتوقف عند السانكرونية والدياكرونية، والتقنين الأدبي، والتطور التاريخي.
ومن ناحية أخرى، توقف يوري تينيانوف عند مجموعة من المبادئ، ضمن تصوره المنهجي الشكلاني، ومن أهم المصطلحات والمفاهيم الموظفة عنده نستحضر: اللغة، والكلام، والبناء، والشكل، والتحول، والهيمنة، والمادة، والأثر الأدبي، والوحدة، والتطور الأدبي، والعلامة، والديناميكية، والسانكرونية، والدياكرونية، والنظام، والبنية، والنظام، واللسانيات، والقوانين البنيوية للغة والأدب، والبنيات، والأنماط البنيوية، والوصف، والقيمة المهيمنة، والمتوالية، والترابط، والتكامل...
هذا، ويعد يوري تينيانوف من أهم منظري الأدب الذين اهتموا بنظرية الأجناس الأدبية، وقد حاول دراستها وتصنيفها وفق مقولات شكلية وبنيوية، مقترحا في ذلك قانون الأضداد الذي استعمله لرصد تطور هذه الأجناس. وقد أثبت تينيانوف أن الأجناس والأنواع الأدبية تتعرض للتطور الجدلي؛ حيث تظهر بعض الأنواع والأنساق، ثم تختفي لتظهر أنواع أخرى. وفي هذا الصدد، يقول الدارس: "في حقبة تحلل نوع أدبي، يتحول هذا النوع من المركز إلى المحيط. وتحتل مكانه ظاهرة جديدة، جاءت من أدب الدرجة الثانية أو من الحياة العملية." 
وبناء على ما سبق، يتضمن النظام أو النسق الأدبي المتعدد مجموعة من الأجناس والأنواع الأدبية التي تتضمن أنساقا وأنظمة بنيوية خاصة بها، تتنافس فيما بينها، بشكل دائم ومستمر، للوصول إلى مركز السيطرة والهيمنة. بمعنى أن هناك أجناسا وأنواعا أدبية توجد في المركز، وتوجد الأخرى في المحيط أو الهامش. لذلك، يحدث بينها توتر حاد وصراع جدلي دائم بغية السيطرة على المركز. وحينما نقول السيطرة على المركز، فإننا نقصد أن يكون للجنس شرعية أدبية ونقدية، واعتراف مؤسساتي، وقدسية فخمة، ومقبولية عند الدوائر الحاكمة والسلطة السائدة. وبالتالي، يصبح ذلك الجنس داخلا في منظومة ثقافة الدولة محافظة وتكريسا وتدريسا وتعريفا وإعلاما، بل يصبح معيارا أكاديميا للإنتاج والإبداع والمنافسة. بمعنى أن هناك أشكالا وأنواعا أدبية مبجلة اجتماعيا ومؤسساتيا؛ مثل الأشكال الأدبية العريقة (سلطة الشعر في الأدب العربي)، وأشكالا مهمشة دونية ومتدنية لا يعترف بها الجميع، وتميل إلى البقاء في المحيط الخارجي للنظام الأدبي، فلا تعنى بها الدراسات الأدبية والنقدية والثقافية؛ مثل: أدب الأطفال، والأعمال المترجمة، والأدب الشعبي (نحو (ألف ليلة وليلة) في الأدب العربي)...
ولم يقتصر عمل يوري تينيانوف على مجال الشعر، والتنظير للأجناس الأدبية فحسب، بل اهتم كذلك بالسرد في كتابه (دوستوفسكي وغوغول)؛ فقد درس نصوص هذين الكاتبين معا دراسة بنيوية شكلانية، بالتركيز على المعارضة، والباروديا، والتناص، والمحاكاة الساخرة، وصراع الأضداد الذي يتحكم في التطور الأدبي، وتطور الأجناس والأنواع الأدبية. وفي هذا السياق، يقول تينيانوف: "حينما نتحدث عن التقليد أو عن التعاقب الأدبي، فإننا نتخيل - بصفة عامة - وجود خط مستقيم يصل خلف فرع أدبي ما بسلفه. ومع ذلك، فإن الوضعية هي أكثر تعقيدا. فليس الخط المستقيم هو الذي يستطيل، بل نشاهد عملية انطلاق تنتظم بدءا من نقطة معينة يتم دحضها.. إن كل تعاقب أدبي هو، قبل كل شيء، معركة.. معركة تحطيم كل موجود سلفا، وإقامة بناء جديد انطلاقا من عناصر قديمة." 
ويعني هذا أن "صورة التطور الأدبي لتنعقد بكشف صراعاته، وثوراته الدورية؛ فيفقد بذلك معناه القديم: معنى التقدم الهادئ. في هذا الإطار، اتخذت العلاقات الأدبية بين دوستوفسكي وغوغول شكل صراع معقد." 
وعليه، فقد كان يوري تينيانوف أسلوبيا في دراساته السردية، عارفا بجدلية الأجناس والأنواع الأدبية، متعمقا في قضايا اللغة السردية، متأثرا في ذلك بميخائيل باختين الذي اشتغل كثيرا على أساليب التهجين في الرواية البوليفونية عند دوستوفسكي، ولاسيما في كتابه (شعرية دوستوفسكي) .
الفرع الثالث: يوري لوتمان 
يتكون مفهوم سيمياء الكون (La Sémiosphère) من مصطلح السيميوطيقا الذي يعني علم العلامات والإشارات، ومصطلح (Sphère) الذي يعني الكون أو المجال الواسع. ومن ثم، يمكن ترجمة المفهوم بالسيميوطيقا المجالية أو الفضائية أو الكونية، ويترجمه الباحث المغربي عبد المجيد النوسي بسيمياء الكون . 
وتستوجب هذه السيميوطيقا وجود فضاء كوني عام، يتضمن عدة لغات وثقافات مختلفة متفاعلة فيما بينها إيجابا وسلبا. ومن ثم، فالبنيتان الزمانية والمكانية هما أساس حياتنا الثقافية ضمن سيمياء الكون. بمعنى أن سيمياء الكون تنبني على وجود لغات ثقافية متعددة ومختلفة، تنقسم بدورها إلى محورين: محور أفقي يمثل الزمنية (الماضي، والحاضر، والمستقبل)؛ ومحور عمودي يمثل الفضاء (الداخل، والخارج، والحدود). وتشكل هذه اللغات أساس السيميوطيقا الكونية لدى لوتمان. ومن ثم، تتميز السيميوطيقا الكونية بتداخل اللغات وتواصلها وتفاعلها، على الرغم من استقلالية كل لغة على حدة بمكوناتها اللسانية والثقافية الخاصة. وأكثر من هذا، فلا وجود للوحدة الكونية إلا بالاختلاف البناء، وتمثل حوار الحضارات، والإيمان بتعدد اللغات والثقافات. 
فإذا أخذنا صالة المتحف، مثلا، فإنها تشتمل على مجموعة من اللوحات الفنية التي تعبر عن عصور وسياقات واتجاهات فنية متنوعة، وتتكلم بلغات شتى، كما تخضع زيارة المتحف لأنساق سلوكية مختلفة. وعلى الرغم من هذا الاختلاف، فهناك وحدة ما تجمع بين هذه العناصر والمظاهر تتمثل في وحدة المكان، وهي صالة المتحف.
ومن هنا، يتأسس الانسجام، في سيميوطيقا الكون، على وجود قانون الثنائيات البنيوية المتعارضة (يمين ويسار، وأسفل وأعلى...)، وقانون اللاتماثل. ويعني هذا أن سيميوطيقا الكون قائمة على مبدأي الاختلاف واللاتماثل في مظهرهما العام. كما تتضمن هذه السيميوطيقا مجموعة من العناصر البنيوية المتعارضة الدالة.
وعليه، تشبه السيميوطيقا الكونية ما يسمى بالكون الحيوي الذي تحدث عنه الفيزيائي الروسي فيرنادسكي (Vernadsky). بمعنى أن الكون السيميائي يضم مجموعة من اللغات والأنساق التواصلية المختلفة القائمة على التفاعل والتحاور والتناص. ومن ثم، فالكون السيميائي هو فضاء لذلك الالتقاء والتفاعل والتواصل الدائم. ويرى لوتمان أن السيميوطيقا مبنية على التواصل والسيميوزيس والتجارب السيميائية للذوات. ومن ثم، فالكون السميائي هو الفضاء الوحيد للتواصل والتفاعل بين اللغات والأنساق والأنظمة. وبالتالي، يتحقق، في مظانه، الإخبار والإعلام والتواصل. ومن ثم، يمكن الحديث عن ثقافة بشرية مشتركة وكونية. علاوة على ذلك، تقوم السيميوطيقا الكونية على الثنائيات البنيوية واللاتماثل اللذين يحققان التماسك السيميوطيقي. ومن ثم، تنقسم اللغات والثقافات - بنيويا - إلى ثنائيات غير متماثلة. وهناك أيضا تعدد الأنساق الثقافية ضمن نسق سيميوطيقي معين، وتعدد للغات التي تتطور وتتفرع إلى مركز وهامش. وبالتالي، لايمكن للغة أن تشتغل إلا في فضاء ثقافي سيميائي معين. وفي هذا الصدد، يرى لوتمان أن "كل لغة تجد نفسها غارقة داخل فضاء سيميوطيقي خاص، ولا يمكن أن تشتغل إلا بالتفاعل مع هذا الفضاء... هذا هو الفضاء الذي نصطلح عليه بـ"سيمياء الكون"." 
إذاً، يتحدث لوتمان عن الفضاء الثقافي الكوني الذي يرفض الانعزال والانغلاق والأحادية. فالكون هو الفضاء الحيوي الملائم لتطور الثقافة، واستمرار حياة الذوات والأغيار. وقد كتب فيرنادسكي: "كل المجموعات الحية تعد مرتبطة، حميميا، البعض بالآخر. لا يمكن للواحدة أن توجد بدون الأخريات. هذه العلاقة الثابتة بين مختلف المجموعات وطبقات الحياة، تعد أحد المظاهر التي لاتطمس للآلية الفاعلة داخل القشرة الأرضية، والتي تمظهرت على طول الزمن الجيولوجي." 
تثبت هذه القولة وجود ترابط حميم بين الكائنات الحية، وأن هذه الكائنات لايمكن أن تعيش بمعزل عن الأخرى. ويعني هذا أن التفاعل هو أساس الكائنات العضوية، وأن الانعزال صفة مشينة في هذا الكون الحيوي. وقد يتجاوز هذا التفاعل الحيوي والاجتماعي والطبقي الإنسان والكائن الحي إلى ماهو جيولوجي على صعيد القشرة الأرضية. بمعنى أن الإنسان بنية جزئية توجد داخل الطبيعة أو الكون الطبيعي، وتنتمي إلى هذا المجموع، وتتحرك فيه ضمن علاقة عضوية حيوية مع مختلف العناصر والبنيات التي توجد في النسق الكلي نفسه.
 أما عن العلاقات التي توجد بين الإنسان وباقي المجال الحيوي، فهي علاقات تفاعلية وتواصلية متنوعة، قد تكون موجبة أو سالبة. وتتحدد هذه العلاقات في الزمان والمكان معا. ومن هنا، فالإنسان لا يمكن أن يعيش إلا في فضاء كوني حيوي مع الكائنات الأخرى، سواء أكانت بشرية أم غير بشرية. وبالتالي، لا يمكن للإنسان الطبيعي أن ينعزل عن هذا الفضاء الثقافي الكوني العام الذي ينصهر فيه الجميع تفاعلا وتعايشا وإبداعا وتواصلا.
ومن جهة أخرى، يوحي اللاتجانس بالتعددية والاختلاف وعدم التماثل والتوازي. بمعنى أن هذا الكون يتضمن لغات وأنساقا ثقافية مختلفة، تترابط فيما بينها، وتتعدد بنية ودلالة ووظيفة. وبالتالي، يشتمل هذا الكون على تجارب سيميائية مختلفة، وبنيات لغوية متعددة. وعلى الرغم من هذا التعدد، فهناك ترابط وأواصر جامعة بين هذه اللغات. وخير دليل على هذا الترابط ما تقوم به الترجمة من نقل للمعاني والتجارب السيميائية من لغة إلى أخرى. وفي الآن نفسه، تصبح هذه الترجمة عاجزة عن نقل ذلك بأمانة؛ بسبب اختلاف النسق السيميائي واللساني والثقافي من لغة إلى أخرى. وفي هذا الصدد، يقول يوري لوتمان: "سيمياء الكون موسومة باللاتجانس. تعد اللغات التي تملأ الفضاء السيميوطيقي متنوعة ومترابطة ببعضها البعض على طول طيف يذهب من إمكانية كاملة ومتبادلة للترجمة إلى استحالة كاملة ومتبادلة أيضا للترجمة. يتحدد اللاتجانس، في ذات الحين، بتعدد العناصر التي تكون سيمياء الكون وباختلاف الوظائف التي تنجزها هذه العناصر. هكذا، إذا قمنا بتجربة ذهنية نتخيل من خلالها نموذجا لفضاء سيميوطيقي رأت فيه كل اللغات النور في اللحظة ذاتها ونفسها، وتحت تأثير الاندفاعات نفسها، لانحصل دائما على بنية ذات سنن موحد، ولكن على مجموعة من الأنساق المترابطة والمختلفة." 
ومن ثم، تتعرض اللغات، مثل الموضات، للتغير والتطور والتجديد. فإذا كان التطور البيولوجي والتقني يتعرض للمحو والانقراض، وسيطرة الجديد، فإن الأشكال الثقافية تموت وتتجدد حسب العصور. بمعنى أن موضة ما قد تنقرض في زمن ما، لكن يمكن أن تظهر من جديد في فترة أخرى، لتتخذ صفة الحداثة والتميز. وفي هذا، يقول لوتمان: "يتضمن التطور البيولوجي انقراض بعض الأنواع والانتقاء الطبيعي: لا يرى الباحث سوى الكائنات الحية التي تعاصره. ظاهرة مماثلة تقع في تاريخ التكنولوجيا: حينما تصبح أداة ما متجاوزة وباطلة بفعل التقدم التقني، فإنها تدخل مرحلة "التقاعد" داخل متحف مثل قطعة أثرية. لقد توقفت، إذا أردنا القول، عن الحياة. في تاريخ الفن، على العكس من ذلك، الآثار الفنية التي تصلنا من حقب ثقافية غارقة في القدم تستمر في لعب دور داخل تطورنا الثقافي الخاص مثل عوامل حية. أثر فني ما يمكن أن يموت ثم يعود إلى الحياة؛ بعدما أن تم الحكم عليه بأنه متجاوز، يمكن أن يعود ليصبح متسما بالراهنية، بل تنبؤيا حينما يتحدث عن المستقبل. إن ما هو وظيفي ليس الطبقة الزمنية الأكثر حداثة، ولكن كلية التاريخ التي تحتويها النصوص الثقافية." 
تأسيسا على ما سبق، تتميز سيمياء الكون بالاختلاف العام على مستوى اللغات والنصوص والخطابات والأفضية والثقافات. بيد أن هذا الاختلاف قد يساهم في تحقيق البعد التواصلي والديناميكية الثقافية التي لا تقبل الانعزال والانغلاق والتطرف والانطواء على الذات.
الفرع الرابع: ميخائيل باختين
يقصد بالبوليفونية (Poliphonie/poliphony) - لغة- تعدد الأصوات، وقد أخذ هذا المصطلح من عالم الموسيقا، ليتم نقله إلى حقل الأدب والنقد. ومن ثم، فالمقصود بالرواية البوليفونية تلك الرواية التي تتعدد فيها الشخصيات المتحاورة، وتتعدد فيها وجهات النظر، وتختلف فيها الرؤى الإيديولوجية. بمعنى أنها رواية حوارية تعددية، تنحو المنحى الديمقراطي؛ حيث تتحرر، بشكل من الأشكال، من سلطة الراوي المطلق، وتتخلص أيضا من أحادية المنظور واللغة والأسلوب. وبتعبير آخر، يتم الحديث، في هذه الرواية المتعددة الأصوات والمنظورات، عن حرية البطل النسبية، واستقلالية الشخصية في التعبير عن مواقفها بكل حرية وصراحة، ولو كانت هذه المواقف، بحال من الأحوال، مخالفة لرأي الكاتب. 
وللتوضيح أكثر: تسرد كل شخصية الحدث الروائي بطريقتها الخاصة، بواسطة منظورها الشخصي، ومن زاوية نظرها الفردية، وبأسلوبها الفردي الخاص. بمعنى أن الرواية تقدم عصارتها الإبداعية وأطروحتها المرجعية عبر أصوات متعددة. وهذا ما يجعل القارئ الضمني الواعي يختار، بكل حرية، الموقف المناسب، ويرتضي المنظور الإيديولوجي الذي يلائمه ويوافقه، دون أن يكون المتلقي في ذلك مستلبا أو مخدوعا من قبل السارد أو الكاتب أو الشخصية. ويعني هذا كله أن الرواية البوليفونية مختلفة أيما اختلاف عن الرواية المنولوجية أحادية الراوي، والموقف، واللغة، والأسلوب، والمنظور؛ بوجود تعددية حوارية حقيقية على مستوى السُّرّاد، والصيغ، والشخصيات، والقراء، والمواقف الإيديولوجية.
ومن أهم النصوص الروائية الممكنة في هذا المجال، نذكر: رواية (إلواز الجديدة) (La Nouvelle Héloise) لجان جاك روسو (J.J. Rousseau)، ورواية (الروابط الخطيرة /Les Liaisons Dangereuses) لكوديرلوس دي لاكلو (Choderlos de Laclos)، وروايات دوستويفسكي، وخاصة روايته الذائعة الصيت (الجريمة والعقاب)... ومن الروايات العربية التي سارت على هذا النحو نذكر على سبيل المثال: رواية (لعبة النسيان) للمبدع المغربي محمد برادة ، ورواية (جبل العلم) لأحمد المخلوفي ...
هذا، ويعرف ميخائيل باختين الرواية البوليفونية بقوله: "إن الرواية المتعددة الأصوات ذات طابع حواري على نطاق واسع. وبين جميع عناصر البنية الروائية، توجد دائما علاقات حوارية. أي: إن هذه العناصر جرى وضع بعضها في مواجهة البعض الآخر، مثلما يحدث عند المزج بين مختلف الألحان في عمل موسيقي. حقا إن العلاقات الحوارية هي ظاهرة أكثر انتشارا بكثير من العلاقات بين الردود الخاصة بالحوار الذي يجري التعبير عنه خلال التكوين.. إنها ظاهرة شاملة تقريبا، تتخلل كل الحديث البشري، وكل علاقات وظواهر الحياة الإنسانية.. تتخلل تقريبا كل ما له فكرة ومعنى."  
وتأسيسا على ماسبق، فالرواية البوليفونية، في الحقيقة، تعبير عن صورة الإنسان، وتصوير لتنوع الحياة، وتعبير صادق عن تعقد المعاناة البشرية. كما أنها كفاح "ضد تشييء الإنسان، ضد تشييء العلاقات الإنسانية وكل القيم الإنسانية في ظل النظام الرأسمالي."  
ويعني هذا أن رؤية كاتب الرواية البوليفونية رؤية إنسانية، ترفض - بشكل قطعي - تحويل القيم المعنوية أوالكيفية إلى قيم مادية وكمية، باسم اقتصاد تبادل البضائع والسلع الذي شيّأ العلاقات الإنسانية. علاوة على ذلك، فقد استندت الرواية البوليفونية، على المستوى الإبستمولوجي، إلى الفلسفة النسبية التي شككت في المطلق واليقين والثابت والكوني منذ منتصف القرن التاسع عشر، وبالضبط مع الفيزيائي الألماني إينشتاين.
إذا كانت الرواية المنولوجية ذات صوت إيديولوجي واحد، تعتمد على السارد المطلق العارف بكل شيء، وتستند إلى سارد واحد، ورؤية سردية واحدة، ولغة واحدة، وأسلوب واحد، وإيديولوجية واحدة، فإن الرواية البوليفونية رواية متعددة الأصوات، ومتعددة الأنساق والأنظمة على مستوى اللغة، والأساليب، والمنظور السردي، والإيديولوجي، وكذلك من حيث الشخصيات. وتطرح أفكارا متناقضة جدليا، وتعطي المتلقي هامشا من الحرية والاستقلالية؛ لكي يختار الموقف المناسب الذي يتلاءم مع قناعاته وثقافته ومعتقده. وغالبا، ما تتحدد بوليفونية الرواية بوجود تنوع في المنظور الإيدولوجي. لذا، يرى أوسبنسكي (Uspenski) أن الرواية البوليفونية تمتاز بمجموعة من الشروط، وهي:
1- "عندما توجد عدة منظورات مستقلة داخل العمل.
2- يجب أن ينتمي المنظور مباشرة إلى شخصية ما من الشخصيات المشتركة في الحدث. أي: ألاّ يكون موقفا إيديولوجيا مجردا من خارج كيان الشخصيات النفسي.
3- أن يتضح التعدد المبرز على المستوى الإيديولوجي فقط، ويبرز ذلك في الطريقة التي تقيم بها الشخصية العالم المحيط بها." 
وعلى هذا الأساس، فقد تخلصت الرواية الحديثة من أحادية المنظور، وانزاحت عن اليقين المطلق الثابت، باسم النسبية والمعرفة الاحتمالية. "إن سيطرة أحادية الراوي العالِم بكل شيء أصبحت غير محتملة في العصر الحديث، مع التطور الثقافي العريض للعقل البشري، بينما أصبحت النسبية المتشبعة في النص القصصي أكثر ملاءمة." 
وبناء على ما سبق، تنبني الرواية البوليفونية على تعدد المنظورات السردية، وتداخل الأنساق والأنظمة اللغوية، وتنوع وجهات النظر (الرؤية من الخلف- الرؤية المصاحبة - الرؤية من الخارج)، بالإضافة إلى تعدد الضمائر السردية (ضمير المتكلم - ضمير المخاطب - ضمير الغائب)، وتعدد الرواة والسراد الذين يعبرون عن اختلاف المواقف الفكرية، وتعدد المواقف الإيديولوجية، واختلاف وجهات النظر تواصلا وتبليغا واقتناعا. بمعنى أن كل قصة نووية يسردها سراد مختلفون، كل سارد له رؤيته الخاصة إلى زاوية الموضوع. أي: يعطي المؤلف للشخوص الحرية للتعبير عن وجهات نظرها، دون تدخل سافر من المؤلف لترجيح موقف على حساب موقف آخر. بل يترك كل شخص يدلي برأيه بكل صراحة وشفافية؛ فيعلن منظوره تجاه الحدث والموقف بكل صدق وإخلاص، ثم يعبر عن نظره وإيديولوجيته بكل مصداقية، دون زيف أو مواربة أو تغيير لكلامه؛ كأن تعبر شخصية - مثلا - عن رؤيتها الإسلامية، وتعبر شخصية أخرى عن رؤيتها الاشتراكية، وشخصية ثالثة عن الرؤية الشيوعية، وشخصية رابعة عن رؤية أرستقراطية، وهكذا دواليك، لكن للقارىء الحق الكامل في اختيار الرؤية التي يراها مقنعة ووجيهة، دون أن يفرض عليه الكاتب أو المؤلف أو السارد المطلق رؤية معينة، عبر مجموعة من الآليات؛ كترجيح وجهة نظر شخصية معينة، وتسفيه آراء الشخصيات الأخرى عن طريق التقويم الذاتي والانفعالي، وإصدار أحكام القيمة.

الفرع الخامس: بوريس توماشفسكي

يتكون النسق من مجموعة من العناصر البنيوية التي تحدد النظام التكويني للنص أو العمل الأدبي، وقد تكون تلك العناصر ثابتة أو متغيرة. ومن هنا، تصبح الأنساق معايير للاحتكام الفني والأدبي والجمالي. ومن ثم، تتحدد المدرسة الأدبية بمدى محافظتها على نسق أصولي ما، أو بمدى خرقها وانزياحها عن هذا النسق الثابت محافظة أو تجديدا. ويعني هذا أن "كل قاعدة أصولية تكون صالحة لتحديد نسق. وفي هذا الصدد، فكل شيء في الأدب - بدءا من اختيار المادة الغرضية والحوافز المستقلة، وتوزيعها، ووصولا إلى نظام العرض واللغة والمفردات إلخ - يمكن أن يصبح نسقا أصوليا؛ وهكذا يقنن استعمال بعض الكلمات، ويمنع بعضها الآخر. كما يقنن اختيار بعض الحوافز، وينبذ بعضها الآخر... إلخ. إن وجود الأنساق الأصولية رهين بسهولتها؛ فهي تغدو تقليدية نظرا لتكرارها، وعندما تصير ضمن الإنشائية المعيارية فإنها تقام كقواعد ضرورية. غير أنه ليس يوجد أصل يمكن أن يستهلك كل الإمكانيات، أو يتوقع كل الأنساق الضرورية لخلق عمل أدبي كامل. وإلى جانب الأنساق الأصولية، هناك دائما أنساق حرة، ولا تتصف بالضرورة، تظل خاصة ببعض الأعمال الأدبية، أو بعض الكتاب، أو بعض المدارس، إلخ..." 
وتساهم الأنساق الأصولية بنوعيها: الإجبارية والممنوعة، في تحديد إشكالية التقليد والحداثة، وإشكالية الأصالة والمعاصرة، وثنائية الانغلاق والانفتاح، وفي تبيان تجدد المدارس والحركات والاتجاهات الأدبية والفنية. أي:"إن الأنساق الأصولية، في العادة، تنفي نفسها من تلقاء ذاتها. وقيمة الأدب تتجلى في جديده وأصالته. وكل رغبة في التجديد تعني، بصفة عامة، أن ننقل الأنساق الأصولية التقليدية المقولبة من فئة الأنساق الإجبارية إلى فئة الأنساق الممنوعة؛ وهكذا تتولد تقاليد جديدة وأنساق جديدة. غير أن هذه العملية لا تمنع الأنساق التي كانت محظورة من قبل أن تنبعث بعد جيلين أو ثلاثة أجيال. وحسب تقدير الوسط الأدبي للأنساق، فإنه يمكن تصنيف هذه الأخيرة إلى مدركة وغير مدركة.
إن النسق يمكن أن يكون مدركا لسبين اثنين: أقدميته البالغة أو جدته البالغة. فالأنساق الخلقة، القديمة، المتداعية تكون مدركة؛ مدركة كبقايا مزعجة، وكظاهرة فقدت معناها، لكن تستمر في الوجود بسبب جمودها؛ كجسم ميت بين كائنات حية. خلافا لذلك، تصدمنا الأنساق الجديدة بطابعها غير المعتاد، خصوصا عندما تستعمل في حصيلة كانت، إلى ذلك الحين، محظورة عليها؛ مثل استعمال الكلمات السوقية في الشعر الراقي." 
وعلى العموم، تنمو الأنساق البنيوية وتتطور، ثم تموت، ثم تتجدد. وفي هذا، يقول توماشفسكي: "هكذا، تولد الأنساق، تعيش، تشيخ، ثم تموت. وتبعا لتطبيقها، فإنها تغدو آلية؛ فتفقد وظيفتها ولا تعود فعالة. وسعيا لقهر آلية النسق، فإنه يجدد بفضل وظيفة جديدة أو معنى جديد. إن تجدد النسق هو شبيه بالاستشهاد بقول كاتب قديم في سياق جديد، وبدلالة جديدة." 
وعلى العموم، يتحدد النص أو العمل الأدبي بوجود نسق بنيوي سردي معين، تتداخل فيه المكونات الثابتة والسمات المتغيرة جنبا إلى جنب.
إذا كان الأدب الحي تجمعا ثابتا للأنساق، فإن الأجناس والأنواع الأدبية تتحدد انطلاقا من أنساق معينة هي التي تميز نوعا أدبيا عن نوع آخر. ويتفرع الجنس إلى النوع والنمط. ومن ثم، تتميز الأنواع الأدبية بمجموعة من الملامح والسمات والمكونات الثابتة والمتغيرة، وقد تتمثل هذه المعايير التمييزية في طبيعة الكلمة، أو الأسلوب، أو نوع الخطاب، أو حسب السجل اللساني، أو حسب الغرض والوظيفة والمقصدية، أو حسب الشكل، أو حسب الصيغة والمضمون، أو حسب الكلام واللغة، أو حسب البلاغة، أو حسب المتلقي، أو حسب التصوير...
ويمكن الاحتكام إلى القيمة المهيمنة للتمييز بين الأنواع الأدبية، وهذا المعيار موجود أيضا لدى رومان جاكبسون . وتعني هذه الخاصية هيمنة عنصر أو ملمح داخل نوع أو جنس أدبي ما. فعندما تهيمن الوظيفة الجمالية على النص، فنحن آنئذ أمام نص إبداعي. وحينما تهيمن الوظيفة التأثيرية، فنحن أمام خطبة - مثلا-. وحينما تهيمن الوظيفة الوصفية، نكون أمام نص نقدي. وحينما تهيمن الوظيفة المرجعية نكون أمام نص إخباري؛ كالتاريخ - مثلا-. وحينما تهيمن الوظيفة الحفاظية، فنحن أمام حوار تواصلي أو مكالمة هاتفية. وحينما تهيمن الوظيفة الانفعالية، فنحن أمام نص شعري. وحينما تهيمن الوظيفة الأيقونية البصرية، فنحن أمام صورة أو مخطط سيميائي ما...
وهكذا، فملامح النوع، "بمعنى الأنساق التي تنظم تركيب العمل الأدبي، هي أنساق مهيمنة. أي: إن كل الأنساق الأخرى الضرورية لخلق المجموع الفني تكون خاضعة لها. إن النسق المهيمن يسمى "المهيمنة"، ومجموع المهيمنات يمثل العنصر الذي يسمح بتشكل نوع معين.
إن هذه الملامح متعددة الصلاحية، وهي تتقاطع ولا تسمح بتصنيف منطقي للأنواع حسب معيار وحيد." 
وعليه، فالأنواع الأدبية تنمو، وتعيش، وتموت، وتنقرض، وتنبعث من جديد مثل الكائن البشري. لذا، تنبني الأجناس والأنواع الأدبية على مجموعة من القوانين؛ مثل مبدإ المشابهة، ومبدإ الاختلاف، ومبدإ الثبات، ومبدإ التغير، ومبدإ التحول، ومبدإ التباين، ومبدإ التطور، ومبدإ التدرج، ومبدإ الاشتراك، ومبدإ الترابط، ومبدإ التفكك والتحلل، ومبدإ التوالد والتناسل، ومبدإ التنظيم، ومبدإ التعاقب، ومبدإ الحلول، ومبدإ التسرب، ومبدإ الوظيفة، ومبدإ التمييز، ومبدإ التصنيف، ومبدإ التنميط، ومبدإ التفريع، ومبدإ التنويع، ومبدإ الهيمنة...
ويستلزم تصنيف الأجناس والأنواع الأدبية والفنية الأخذ بالمنهج الوصفي للتمييز بينها على أسس المبنى والشكل، وتوزيع المادة في الأطر المحددة. وبالتالي، يكون هذا التصنيف بنيويا أو شكليا أو سيميائيا. و"إنه من الواجب أيضا أن نلاحظ بأن تصنيف الأنواع هو عمل معقد. فالأعمال الأدبية موزعة في طبقات شاسعة تتمايز، بدورها، إلى أنماط وأصناف. في هذا الاتجاه، سنذهب، نزولا في سلم الأنواع، من الطبقات المجردة إلى الفوارق التاريخية الملموسة... وحتى إلى الأعمال الأدبية المفردة." 
وعليه، فإن نظرية الأدب هي التي تدرس الأجناس والأنواع والأنماط الأدبية والفنية وفق مقاييس التصنيف والتجنيس والتفريع. ومن ثم، يبقى معيار المكونات والسمات والأنساق، أو ما يسمى أيضا بالأركان والشروط، من أهم المعايير النصية الموضوعية للتمييز بين الأجناس والأنواع والأنماط.

المطلب الثاني: البنيوية اللسانية والنسق المغلق

يعد السويسري فرديناند دو سوسير (Ferdinand de Saussure) (1857-1913م) أول من تعامل مع النسق (Système) من الناحية اللسانية واللغوية والسيميولوجية، ولاسيما في كتابه ( محاضرات في اللسانيات العامة) الذي ألفه عام 1916م . ويعني هذا أن دوسوسيور يعتبر اللغة نظما أو نسقا من الرموز وظيفته التواصل. ويتميز هذا النسق بالانغلاق والثبات والمحايثة والسانكرونية، مع إقصاء العوامل التاريخية والمرجعية والذاتية، ولاسيما عند تناوله للعلامة اللسانية التي فرعها، بشكل تجريدي، إلى دال ومدلول، مع إبعاد المرجع الواقعي أو الحسي.
هذا، ولقد ميز دوسوسير بين اللغة والكلام، واعتبر اللغة مؤسسة اجتماعية ثابتة. في حين، يعد الكلام ظاهرة فردية متغيرة.ومن ثم، فموضوع اللسانيات هي دراسة اللغة، وليس الكلام.أي: دراسة اللغة دراسة بنيوية وصفية سانكرونية محايثة، في أبعادها الصوتية والصواتية والصرفية والتركيبية والدلالية، على أساس أنها نظام أو نسق داخلي مغلق، يتكون من مجموعة من العناصر التي تتفاعل فيما بينها، مع إبعاد ماهو مرجعي، مثل: الذات، والتاريخ، والسياق، والإنسان، والمقصدية. علاوة على ذلك، يرتكز النسق البنيوي الأحادي والمغلق على مجموعة من الثنائيات الأساسية هي: الدال والمدلول، واللسان والكلام، والمحور التركيبي والمحور الاستبدالي، والسانكرونية والدياكرونية، واللسانيات والسيميولوجيا، والتعيين(Dénotation)والتضمين(Connotation).  
ومن ناحية أخرى، ركز دوسوسير على السيميولوجيا باعتبارها علما عاما أكثر شمولية من اللسانيات، مادامت تدرس اللغوي وغير اللغوي. وبتعبير آخر، إذا كانت اللسانيات تدرس المنطوق أو اللغوي فحسب، فإن السيميولوجيا تدرس العلامات اللغوية والبصرية في آن معا.
ومن ثم، تدرس السيميولوجيا الأنساق المغلقة القائمة على اعتباطية الدليل. ومن ثم، لها الحق في دراسة الدلائل الطبيعية كذلك. أي: إن لها موضوعين رئيسيين: الدلائل الاعتباطية والدلائل الطبيعية. علاوة على ذلك، ينبغي على السيميولوجيا، لكي تحدد استقلالها، وتفرد مجالها الإبستمولوجي، وتكون مفاهيمها التطبيقية، وتحدد تصوراتها النظرية، وتبين مصطلحاتها الإجرائية، أن تستعير من اللسانيات مبادئها ومفاهيمها، كاللسان والكلام، والسانكرونية والدياكرونية، كما فعل رولان بارت الذي يقول:" بمثل هذه النظرة، ما يترتب عنها صارت السيميولوجيا تابعة للسانيات، بل وفرعا منها. والمنهج الذي رصده دوسوسير بخصوص التحليل اللساني، من المفروض، وفق هذا الطرح، أن ينسحب على الأنساق السيميولوجية، مثل: التزامنية(السانكرونية)، والقيمة، والتعارض، والمحورين الترابطي والمركبي." 
هذا، ولقد استفادت مجموعة من المقاربات اللسانية والسيميوطيقية من تصورات فرديناند دوسوسير في تحليل النصوص والخطابات الأدبية والظواهر الأنتروبولوجية والسوسيولوجية والثقافية والفنية؛ إذ تعاملت مع النص أو الظاهرة أو المعطى المرصود على أساس أنه نسق، أو نظام بنيوي أحادي مغلق، يتكون من مجموعة من العناصر والبنيات الصغرى التي يمكن تشريحها تفكيكا وتركيبا. 
وإلى جانب البنيوية السوسيرية، يمكن الحديث عن بعض البنيويات الأخرى داخل اللسانيات تعاملت مع المعطى النصي أو اللغوي على أساس أنه نظام أو نسق أحادي مغلق، مثل: البنيوية الوظيفية مع أندري مارتينه، وتروبتسكوي، ورومان جاكبسون؛ و البنيوية الكلوسيماتيكية مع هلمسليف؛ والبنيوية التأليفية مع كروس؛ والبنيوية التوزيعية مع هاريس وبلومفيلد وهوكيت وسابير...
علاوة على ذلك، لقد طبق النسق البنيوي المغلق في مجال الإثنولوجيا مع كلود ليفي شتروس(Claude Lévi-Strauss)، و علم النفس اللاشعوي مع جاك لاكان(Jacques Lacan)، و اللسانيات مع لوي هلمسليف(Louis Hjelmslev)، و تحليل الأدب مع تزفيتان تودوروف(Tzvetan Todorov)، و الفلسفة مع ميشيل فوكو (Michel Foucault) وجاك ديريدا (Jacques Derrida)، و الأنتروبولوجيا الوثوقية مع بيير لوجوندر (Pierre Legendre)...

المطلب الثالث: النظرية المعاصرة للأنساق المتعددة 

ظهرت النظرية المعاصرة للأنساق المتعددة في بداية السبعينيات من القرن الماضي، في إطار نظريات مابعد الحداثة. وإذا كانت البنيوية اللسانية تتعامل مع النسق في صورته الداخلية المغلقة والثابتة، فإن نظرية الأنساق المتعددة تؤمن بالانفتاح والتعددية والبوليفونية والتهجين والتطور الديناميكي. ومن ثم، تلح على وجود أنساق متعددة كبرى، تتضمن أنساقا فرعية أخرى، قد تتحول - بدورها- إلى أنساق مركزية. ويتكون كل نسق من بنيات وعناصر جزئية تتفاعل فيما بينها إيجابا أو سلبا، داخليا أو خارجيا. ومن ثم، فليس النسق نظاما أحاديا مغلقا ومستقلا ونقيا، بل يتكون من شبكة من الأنساق المتداخلة والمتعددة والمتطورة، مثل: نسق اللغة، ونسق الأدب، وتسق الثقافة، ونسق الفن، نسق الترجمة، ونسق السياسة، ونسق الاقتصاد، ونسق المجتمع، ونسق القانون...ولكل نسق نظامه الخاص، وأنساقه الفرعية والهامشية التي قد تتطور لتصبح أنساقا مركزية بفعل التطور الديناميكي والصراع الجدلي.ومن ثم، يتميز النسق بالانفتاح، والتعددية، والتهجين، والتفاوت، والتداخل، والحركية...
هذا، وقد ظهر مصطلح الأنساق المتعددة (Polysystème) إبان سنوات السبعين من القرن العشرين مع اللساني النمساوي ماريو فيلهيلم فاندروزكا فون فانشتيتن(Mario Wilhelm Wandruszka von Wanstetten) والسيميائي الإسرائيلي إيتيمار إيفان زوهار(Itamar Even-Zohar).
ويمكن الحديث أيضا عن فكر نسقي تعددي عند لودفيج فون بيرتالانفي (Ludwig von Bertalanffy)، وتالكوت بارسونز (Talcott Parsons)...
وعلى العموم، فقد جاءت نظرية الأنساق المتعددة رد فعل على البنيوية اللسانية السوسيرية التي كانت تؤمن بالنسق البنيوي الأحادي المغلق، إلى جانب مفاهيم أخرى تصب في المعنى نفسه، مثل: الثبات، والمحايثة، والسانكرونية،، والانغلاق الداخلي، والنقاء اللغوي، وإقصاء الذات والمرجع والسياق التاريخي والمجتمعي.
هذا،ولقد اهتم إيتامار إيفان زوهار(Itamar Even-Zohar) بنظرية الأنساق المتعددة  منذ سنة 1971 م، عندما تناول في أطروحته الجامعية - التي ناقشها بجامعة تل أبيب- ما يسمى بالترجمة الأدبية. وقد انطلق، في نظريته القائمة على الأنساق المتعددة ، من أعمال الشكلانيين الروس، حيث طورها ونقحها وعرف بها في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية ، وإن كان تزفيتان تودوروف (T.Todorov) قد ترجم نصوص الشكلانيين الروس إلى اللغة الفرنسية، منذ أواسط الستينيات من القرن الماضي، في كتابه (نظرية الأدب، نصوص الشكلانيين الروس) ...
ومن المفاهيم التي ركز عليها إيفان زوهار نظرية النماذج، ونظرية السجلات الثقافية، متأثرا في ذلك بالشكلانيين والسيميائيين الروس، أمثال:
يوري لوتمان(Yuri Lotman)، وياشيسلاف إيفانوف(Vyacheslav Ivanov)، وفلاديمير توبوروف(Vladimir Toporov)، وبوريس أوسبنسكي(Boris Uspensky)، وآخرين...
هذا، وينطلق إيتامار إيفان زوهار من مبدإ أساسي يتمثل في أن اللغة متعددة الأنساق ، ومهجنة لسانيا وثقافيا وأدبيا . ومن ثم، فهناك علاقات نسقية متعددة ومتداخلة ومختلفة ومتشعبة، تكون ما يسمى بالأنساق المتعددة في مجال اللسانيات اللغوية، والأدب المقارن ، والنقد، والترجمة ، والثقافة. وتبدو هذه العلاقات متفاوتة وتراتبية، ضمن سجل مشترك من المعايير والنماذج. أي: هناك صراع بين الأجناس الأدبية الكبرى والصغرى، وصراع جدلي بين الثوابت والمتغيرات، وكذلك بين النصوص المشهورة والنصوص المغمورة، بين الأشكال التقليدية المحافظة والأشكال التجريبية الجديدة. وبالتالي، تقوم نظرية الأنساق المتعددة على نظرية التطور التاريخي، ونظرية الصراع الجدلي، ونظرية القيمة المهيمنة، ونظرية الهيمنة والسيطرة، ونظرية المركز والمحيط، أو المركز والهامش. ويعني هذا كله أن نظرية الأنساق المتعددة أساسها الصراع والتضاد والتقابل بين المركزي والهامشي، والأساسي والفرعي، والكل والمجزإ، والمقدس والمدنس، والعلوي والسفلي، والسامي والداني...وقد يتحول كل هامشي إلى مركزي، والعكس صحيح كذلك.

الفصل الخامس:

حقول نظرية الأنساق المتعددة

المبحث الأول: مدرسة تل أبيب رائدة نظرية الأنساق المتعددة

يعد الباحث الإسرائيلي إيفان زوهار (Itamar Even-Zohar) ؛ الأستاذ بجامعة تل أبيب، رائد نظرية الأنساق المتعددة(polysystem theory)، ورائد نظرية السجلات الثقافية (the theory of cultural repertoires)، إلى جانب توري جدعون، وشيلي ياهالوم (Shelly.Yahalom)، وزوهار شافيت (Zohar Shavit).
 ومن أعضاء هذه المدرسة في الخارج جاب لامبير(Lambert) في بلجيكا، وآني بريسي(Bresset) في كندا، وجيمس هولمز (James Holmes) في هولندا...
ومن هنا، تكون مدرسة تل أبيب رائدة في نظرية الأنساق المتعددة.ولم تعرف نظرية الأنساق المتعددة في فرنسا وألمانيا إلا في فترة متأخرة مع بيير بورديو (Bourdieu)، ويورغان هابرماس (Jûrgen Habermas)، ونيكلاس لومان(Niklas Luhmann)، وديتريش شفانيتشز(Dietrich Schwanitz) ، ويورغ شونيرت (Jörg Schönert) ، وزيغفريد شميت(Siegfried J. Schmidt)، ونيلس فيبر (Niels Werber)، و هينك دو بيرج (Henk de Berg)، وماتياس برانجيل (Matthias Prangel)، وجيرهالد بلومب (Gerhard Plumpe)...
وقد ظهرت نظرية الأنساق المتعددة في 1970م، في أحضان فلسفة ما بعد الحداثة. وقد انطلقت من أعمال الشكلانيين الروس من جهة أولى، وتصورات البنيويين الفرنسيين من جهة ثانية، ومن النقد السوسيولوجي للأدب من جهة ثالثة. وقد اهتمت كثيرا بدراسة الأنساق الأدبية، والتركيز على النص الهدف، أو نص الوصول، أو نص الاستقبال، دون الاهتمام بعملية الترجمة نفسها، أو رصد معظم التحويلات التي يقترحها المترجم عند مباشرة عملية التحويل من لغة المصدر نحو لغة الهدف.ومن ثم فهدف النظرية هو تحليل مختلف العوامل الثقافية والاجتماعية والتاريخية للشكل الأدبي في صورته النهائية، وبعد تلقيه في ثقافة الهدف. ويعني هذا أن الترجمة أقل أهمية في هذه النظرية مقارنة بعملية التلقي والتقبل وعوامل ذلك.وبدل أن تكون مقاربة تقويمية، فهي مقاربة وصفية وتفسيرية ليس إلا. 
هذا، وقد اشتغل إيتامار إيفان زوهار، في إطار مدرسة تل أبيب، على نظرية الأنساق المتعددة، في مؤلفاته وأعماله ودراساته القيمة، ما بين 1969و1970م. وقدوظف هذه النظرية على أساس أنها أداة إجرائية لتصنيف النصوص وكتاب الأدب.وتعنى أيضا بمجموعة من الحقول، مثل: حقل الأدب، وحقل اللسانيات، وجقل الثقافة، وحقل الترجمة...
ومن ثم، فهي نظرية علمية مقننة تحتكم إلى مجموعة من القواعد والآليات والمفاهيم الإجرائية. ومن ثم، تقوم هذه النظرية على البنيوية التطورية، أو البنيوية التكوينية، أو الوظيفية الديناميكية. وقد استخدم إيتامار إيفان زوهار نظرية الأنساق المتعددة في دراسة حقل الأدب، وحقل اللغة، وحقل الترجمة، وحقل الثقافة. ولم تعرف نظرية الأنساق المتعددة في فرنسا وألمانيا إلا في فترة متأخرة جدا.
ومن هنا، فنظرية الأنساق المتعددة، باعتبارها مقاربة وظيفية معاصرة، تدرس الظواهر المركبة والمتنوعة والمعقدة والمتشعبة، بالتركيز على العلاقات الموجودة بين العناصر والأنساق السيميائية المتنوعة، مع تصنيفها وتسجيلها ووصفها وتفسيرها. 
وتطرح هذه المقاربة البنيات والمناهج من جهة، والأسئلة والأجوبة من جهة أخرى. وظهرت البنيوية الديناميكية أو الوظيفية رد فعل على البنيوية السوسيرية الثابتة والستاتيكية التي اعتمدت على علاقات سانكرونية. في حين، تتميز الوظيفية بدراسة الأنساق المتعددة في علاقاتها الدينامية والدياكرونية، مع ربط العناصر بالوظيفة والسياق الخارجي، والاهتمام بالتبدلات والتغيرات والتحولات الداخلية والخارجية للنسق.
ويعني هذا أن فرديناند دوسوسير كان يتعامل مع الأنساق اللغوية في ضوء رؤية بنيوية ثابتة وسانكرونية مغلقة، بإقصاء الخارج والسياق المرجعي.وهذا ما ترفضه البنيوية الوظيفية أو الديناميكية التي تتعامل مع السياق، في انفتاحها وتعددهاوتداخلها، وفي بعدها الديناميكي والدياكروني.
ومن هنا، تنبني نظرية الأنساق المتعددة أو المتنوعة على الجمع بين ماهو سانكروني ودياكروني.وأكثر من هذا فالعناصر البنيوية ليست مستقلة، بل هي متداخلة مع العناصر الأخرى. وهي ليست ثابتة، بل تخضع لعلاقات التبدل والتحويل والتغير. وتوجد هذه المقاربة الديناميكية في كتب الشكلانيين الروس الذين درسوا تطور الأنساق والأبنية والأنظمة في النصوص والأجناس الأدبية، وقد جمعوا بين المقاربة البنيوية والمقاربة التاريخية في دراسة البنية الأدبية.
ويحيل مصطلح (الأنساق المتعددة) على النسق الدينامي والمتعدد والمهجن في مقابل النظام الثابت والساكن، أو التقابل بين المقاربة الديناميكية والمقاربة الستاتيكية الثابتة . ويعني هذا أن النسق متعدد ومتنوع ومعقد ومنفتح ومرتبط بوظيفة سياقية، وخاضع للتطور التاريخي. ومن جهة أخرى، يمكن الحديث عن التنوع الثقافي داخل المجتمع، بوجود طبقات اجتماعية مختلفة ومتفاوتة. ويمكن الحديث عن مجتمع متنوع اللغات، فالاتحاد الأوروبي - مثلا- يتكون من أنساق لغوية متنوعة ومختلفة ومتعددة. ويتكون الأدب من حقول وأنساق لغوية متعددة.ويمكن الحديث عن آداب متعددة ومتنوعة ضمن الأدب المقارن، وعن ثقافات متنوعة ضمن الدراسات الثقافية. وليس هناك أدب منعزل عن باقي الآداب الأخرى، بل هناك تنوع وتعدد وتكامل ثقافي.أي: لابد من ربط نسق الأدب بنسق أدب الطفل، أو بنسق أدب الشباب. وتستلزم الترجمة الأدبية ترجمة المنتج الإبداعي والفني والجمالي من لغة الأم إلى لغات أجنبية أخرى، تتخطى اللغة المحلية واللغة الوطنية، والعمل كذلك على ترجمة آداب لغات أخرى إلى لغة الأم، ضمن التنوع الثقافي والتنوع اللغوي.
وتستيعين نظرية الأنساق المتعددة بالمقاربة التاريخية.ويعني هذا أن المقاربة تدرس آليات الأدب ومكوناته البنيوية من الداخل، مع مقاربة سياقية وظيفية تعتمد على السياق الخارجي والمرجعي والتاريخي. وتتحول الأنساق الساكنة أو الثابتة إلى أنساق متحركة ومتحولة ومتغيرة ومتطورة تاريخيا.أي: يتحول السانكروني إلى دياكروني.
وتؤمن النظرية كذلك بالعلاقات المتداخلة، أو بالعلاقات التفاعلية المتعالية الكونية التي توجد بين الأنساق الثقافية المتنوعة والمختلفة، ضمن ما يسمى عند يوري لوتمان بسيمياء الكون الثقافي.
وفي الأخير، لقد اهتمت نظرية الأنساق المتعددة بمجموعة من الظواهر النسقية المتنوعة، مثل: الأدب، والترجمة، والثقافة، واللسانيات...

المبحث الثاني: حقل الأدب

ينطلق إيتامار إيفان زوهار، في دراسته للأدب، من تصور نسقي متعدد، حيث يصف مجموع الكون الأدبي على أساس أنه نسق سيميائي وثقافي متعدد. ويعني هذا أن الأدب، باعتباره نسقا ثقافيا عاما، يتكون من أنساق فرعية متعددة خاضعة لعلاقات الهيمنة والتراتبية والهرمية والتفاوت النصي. ومن ثم، يتميز النسق بثلاث خاصيات أساسية هي: التهجين، والدينامية، والانفتاح.
وتنتج التراتبية والتفاضلية بين الأنساق اعتمادا على مدى التزام نسق معين بالمعايير والقوانين والنماذج السائدة، ضمن ثقافة معينة، في فترة محددة، تسهر عليها مؤسسة الأدب.أي: تدافع هذه المؤسسة على النماذج والمنتجات التي تحترم القوانين والقواعد والمعايير التي تستند إليها الثقافة السائدة. وبالتالي، تصبح تلك النماذج، مع الوقت، من الموروث الثقافي الوطني لبلد أو منطقة ما. أما النماذج أو المنتجات التي لاتخضع للمعايير والقواعد السائدة، فهي غير معترف بها شرعيا أو مؤسساتيا، بل تكون مقصية ومهمشة مرفوضة. ومن العلم أن هذه القواعد المعيارية أوالمقننة من صنع الأفراد، والجماعات، والمؤسسات...وتتغير في الزمان والمكان.
وهكذا، فالتقنين (Canonicité) يعد عاملا مهما في عملية التمييز بين النصوص الجيدة و الرديئة. ويعتبر أيضا عنصرا مهما في تقويم النماذج والخطابات والأعمال والمنتجات الأدبية والثقافية، والتمييز بين الأدب المركزي والأدب الهامشي. فالمركزي يحيل على النموذج الرفيع الذي يحترم سجل (Répertoire) القواعد والأصول الثابتة لثقافة سائدة ما. في حين، يتمرد الأدب الهامشي عن تلك القواعد، ويطرح معايير جديدة أخرى. ومن هنا، فالسجل عبارة عن قواعد ومعايير وأصول وعناصر تتحكم في إنتاج النصوص والخطابات والأعمال الأدبية. ويعني هذا أن السجل هو الحكم الذي يسمو بجنس أدبي ما، أو ينزل به إلى الحضيض. 
علاوة على هذا، يمتلك النسق الفرعي المركزي قوة السلطة والهيمنة وشرعية الاعتراف من قبل مؤسسة الأدب.ويعني هذا أن النص المركزي، مقارنة بالنص الهامشي، أكثر قوة وشرعية وتنظيما وثباتا وهيمنة. 
ويتيبن لنا، من هذا كله، أن الأنساق المتعددة تتكون من المركز والمحيط، أو ما يسمى أيضا بالمركز والهامش. فالمركز هو النواة المهيمنة.في حين، يعتبر الهامش مجرد محيط تابع. ويمكن التمييز أيضا بين الأنشطة أو النصوص الأولية أو الثانوية، أو النصوص المحافظة أو المجددة. ولايمكن الفصل بين الأنساق الأدبية ضمن وضعية سياقية معينة.بمعنى أن كل ثانوي يكون أوليا، والعكس صحيح كذلك.وبتعبير آخر، يتصارع المحافظ مع المجدد، فيستولي المجدد على زمام السلطة. وبعد مرور الوقت، يصبح المجدد محافظا يتمسك بقواعده ومعاييره المألوفة، دون أن يدخل عليها تجديدا أو تحسينا أو تغييرا. ثم، يأتي الخصم المجدد ليصبح بدوره محافظا أومقلدا، وهكذا، دواليك... 
ويخضع النسق أيضا لعلاقات خارجية، عندما يتفاعل مع باقي الأنساق والحقول الأخرى، كالسياسة، والاقتصاد، والثقافة، والدين...ولايعني هذا أن النسق الأدبي يعكس مختلف هذه الأنساق المحيطة بطريقة مباشرة، بل بطريقة قائمة على التماثل والتوازي.كما يخضع النسق لعلاقات داخلية مع باقي أنساق التجمعات الأخرى.ومن هنا، فمهمة نظرية الأنساق المتعددة هو وصف التداخل الثقافي بين الأنساق المهجنة والديناميكية والمفتوحة وتفسيرها. لذا، تعنى هذه النظرية كثيرا بالترجمة الأدبية على أساس أنها أداة المثاقفة والتبادل الثقافي. ومن هنا، فهذه المقاربة وصفية وتفسيرية بامتياز. بمعنى أن هذه المقاربة تهتم بدراسة الظواهر الأدبية على مستوى تطورها وعلاقاتها الداخلية والخارجية وصفا وتفسيرا.
علاوة على ذلك، ليست هذه المقاربة النسقية انطباعية تعتبر الأدب تعبيرا عن ذاتية الفرد، وليست مقاربة وضعية أو جزئية أو إجرائية أو عملية، بل هي عبارة عن نموذج كوني، يصف مختلف الظواهر الأدبية في عمومها، دون أدنى اعتبار للحدود الوطنية أو اللسانية أو العرقية، أو لأي اعتبار إقصائي شوفيني كما في المقاربات التقليدية الأخرى. فهذه المقاربة وظيفية تهتم باكتشاف القوانين التي تتحكم في الظواهر المتنوعة والمتعددة وصفا وتفسيرا. بالإضافة إلى اكتشافها وتصنيفها.
ومن ثم، تدخل الأنساق الأدبية في صراع وتطاحن وتوتر وتنافر وتنافس حاد لعوامل ذاتية وموضوعية، فردية وجماعية. لذا، فوظيفة نظرية الأنساق المتعددة تتمثل في وصف الظواهر الأدبية وتفسير اشتغالها وتطورها اعتمادا على مجموعة من الثنائيات، مثل: السانكروني والدياكروني، والمركزي والهامش، والرفيع والمتدني، والمغلق والمنفتح، والصافي والمهجن، والمقنن وغير المقنن، والمهيمن والخاضع، والمجدد والمحافظ، والأولي والثانوي...
لقد اهتم إيتامار إيفان زوهار بنظرية النص الأدبي ، وخاصة عنايته بدراسة تاريخ بنية الأدب العبري، معتمدا في ذلك على نصوص الشكلانيين الروس وتصوراتهم النظرية التي تشكلت في مطلع القرن العشرين. ويرى إيفان زوهار أن الشكلانيين الروس كانوا سباقين إلى بلورة نظرية الأنساق المتعددة؛ والسبب في ذلك هو اهتمامهم بمشاكل الأدب وقضاياه، والاهتمام بالدراسات الثقافية، والبحث عن الثابت والمتغير في الأدب الروسي .
هذا، وقد اشتغل إيفان زوهار على نظرية الأنساق المتعددة مدة عشرين سنة من البحث الجاد والدؤوب.وقد توصل إلى مقاربة جديدة في دراسة النصوص الأدبية في سنوات السبعين، تتمثل في البنيوية الديناميكية(Dynamic structuralism)، أو البنيوية الوظيفية (Functionalism)، أو البنيوية التكوينية التطورية القائمة على مفهوم التماثل في دراسة نظرية تاريخ الأدب(Formalism). ويعني هذا أن إيفان زوهار قد طور مفاهيم الشكلانيين الروس، وعمقها بشكل جيد نظرية وممارسة، ضمن منهجية بنيوية ديناميكية ووظيفية.
وبناء على ما سبق، يشكل العمل الأدبي نسقا ذا دلالة.وأكثر من هذا فالعمل أو الأثر الأدبي عبارة عن مجموعة من النصوص لها قواسم مشتركة تكون نسقا من الأنساق.أي: إذا كان الكتاب نسقا، فإنه يتكون من النصوص والأجناس والأنواع الفرعية التي تعد بدورها أنساقا فرعية. 
ويتضمن النص والنسق الأدبيان مجموعة متفاوتة من الأنساق المتداخلة والمتناوبة في توترها. وتتكون الأنساق المتعددة من أنواع ثلاثة من النصوص هي: 
  1.  النصوص الأدبية بالمفهوم الواسع للأدب؛
  2.  النصوص النقدية (التي تتضمن تقويمات نقدية وميتانقدية والنص الموازي (المقدمات)؛
  3.  النصوص والنماذج التي تتخذ طابعا نظريا مجردا.

ولابد من دراسة الأنساق المتعددة في سياقها التطوري التاريخي. ومن جهة أخرى، هناك الأدب الأولي والأدب الثانوي، والأدب النبيل والأدب الوضيع، والأدب الرسمي والأدب الشعبي، والأدب المقدس والأدب المدنس.ومن ثم، هناك أدب حقيقي رسمي تعتمده الدولة، وتدرسه في المؤسسات التعليمية والجامعية، وتسهر على تلقينه وتعليمه وتدريسه للناشئة.وفي المقابل، هناك أدب شعبي لاتعترف به المؤسسة الثقافية الحاكمة والمهيمنة. ويعني هذا أن هناك أدبا مركزيا قويا ومهيمنا ومحترما، له تقاليد وأعراف رمزية وجمالية خاصة، مقابل أدب الهامش والمحيط الذي يدخل مع نسق المركز في صراع وتنافس وتوتر حاد، هدفه الوحيد هو السيطرة على السلطة الأدبية والثقافية التي يتمتع بها نسق المركز.
ومن ثم، فنظرية الأنساق المتعددة عبارة عن مقاربة تاريخية لنظرية الأدب، وأداة إجرائية لوصف الظواهر الفنية والجمالية والأدبية، واستكشاف استقصائي للمكونات الإنشائية للنسق الأدبي. ويعني هذا أن نظرية الأنساق المتعددة ليست نظرية فقط، بل هي مقاربة ومنهجية في تحليل النصوص والأعمال الأدبية وصفا وتفسيرا.أي: تدرس الأنساق والأنساق الكلية المتفاعلة، في ضوء مقاربة تاريخية وسياسية واجتماعية وثقافية، تتجاوز النطاق البنيوي الساكن نحو النطاق البنيوي الدينامي والتاريخي.
وينبني النسق الأدبي عند إيفان زوهار على ستة عناصر مثل نموذج رومان جاكبسون: المنتج(المرسل)، والمستهلك(المرسل إليه)، والسجل(قواعد الإنتاج ومعاييره)، والمؤسسة (السياق)، والمنتج(الرسالة)، و السوق(القناة).
المنتج-----------المنتج(بالفتح)------------------المستهلك
السجل-----------المؤسسة--------------------السوق
ويتضح، من هذا النموذج، أن المقاربة النسقية تتعامل مع النسق الأدبي من الداخل والخارج معا. ومن ثم، فالكاتب، باعتباره منتجا، ينتج عملا أدبيا، أو منتجا فنيا وجماليا، موجها إلى المستهلك أو المتلقي أو القارىء أو الراصد. فيقوم بتشفيره لغويا ولسانيا وثقافيا، وفق قواعد السجل الثقافي ومعاييره المقننة المحددة من قبل مؤسسة الأدب. ومن بعد، يخضع هذا المنتج لقيم التداول والاستعمال في سوق المنتجات. 
وغالبا، ما يتحدد السجل الأدبي والثقافي بالنحو والمعجم وقواعد التجنيس الأدبي. ويعني هذا أن السجل يتضمن مجموعة من القواعد اللسانية المتعلقة بالمورفيمات، والليكسيمات، والمركبات، والجمل، والنماذج، والتوليف بين العناصر والمركبات والقواعد.
هذا، وتنطلق نظرية الأنساق المتعددة، في دراستها للنسق الأدبي، من سوسيولوجيا الثقافة.ويعني هذا أن المقاربة النسقية إجراء علائقي وترابطي، ونشاط سوسيولوجي ثقافي بامتياز.أي: لاتؤمن هذه النظرية باستقلالية العناصر، أو استقلالية الأنساق، بل بتبعيتها لأنساق تفاعلية أخرى.ومن ثم، تهدف هذه النظرية أيضا إلى دراسة الظواهر الأدبية المركبة والمعقدة والمتنوعة.ويقوم النسق الأدبي على الإنتاج والاستهلاك والتقويم.وتقيم هذه النظرية حوارا مع الترجمة، والأدب المقارن، وسوسيولوجيا الأدب، وعلم السرد، والدراسات النصية...
وهكذا، تعنى نظرية الأنساق المتعددة بالنسق الأدبي، باستجلاء مختلف القوانين التي تتحكم في البنية الأدبية من جهة، وتطورها من جهة أخرى. ويعني هذا دراسة النسق الأدبي بنيويا ووظيفيا، أو دراسته وفق مبدإ المحايثة تارة، ووفق مبدأ التطور التاريخي والسياقي تارة أخرى.أي: دراسة الأدب في ضوء نظرية الأنساق المتعددة التي تهتم بتحديد مختلف الأصناف والأشكال والأجناس الأدبية، وتصنيفها حسب أنساقها البنيوية والتطورية. علاوة على دراسة النسق الأدبي في ضوء سيميوطيقيا عامة، تحلل مختلف الأنساق الأدبية الرمزية، في بعدها التفاعلي والترابطي والتجاوري والتلاقحي، مع البحث عن الثوابت والمتغيرات التي تتحكم في مختلف الأجناس والأشكال الأدبية، بتحديد الأجناس المركزية والأجناس الفرعية أو الهامشية، ورصد الصراع الجدلي بينها. 
وأكثر من هذا، فالنسق الأدبي هو جزء أو نسق فرعي من نسق عام هو النسق الثقافي الذي تسميه مدرسة تارتو بسيميوطيقا الثقافة. وعند دراسة النسق الأدبي أو الثقافي، لابد من التوقف عند البنية، والدلالة، والتطور، والوظيفة، والسياق العلائقي في ترابط بالأنساق الأخرى. لذا، تجمع هذه المقاربة بين الاتجاه البنيوي السكوني والاتجاه الوظيفي الدينامكي. ومن ثم، فهناك مجموعة من العلائق والترابطات المعقدة والمركبة التي تتحكم في مجموعة من الأنساق المختلفة، داخل كون أو فضاء ثقافي، يوجه، بطريقة أساسية، دراسة ذلك النسق الأدبي. بالتالي، يساعدنا ذلك على فهم البعد النسقي المتداخل للأدب، ومعرفة رد فعله تجاه الأنساق الهامشية أو الفرعية التي تحيط به، مثل: الفن، والدين، والإيديولوجيا، والأدب الأجنبي، والتاريخ... مما يعني أن أشكال التداخل النسقي وأنماطه وظروفه يشكل موضوع التحليل والدراسة، مع الإحالة على الأنساق الأخرى غير الأدبية التي لن تضر التحليل في أي شيء. 
ومن جانب آخر، تهتم النظرية بتصنيف مركزي للنسق الداخلي، من خلال التقابل بين الأدب السامي والأدب الوضيع، أو بين الأدب المركزي والأدب الهامشي الشعبي. ويتخذ هذا طابعا ديناميكيا من خلال التركيز على التطور الأدبي للشكل، في مساره التكويني، وتحوله من الهامشي إلى المركزي، أو من المركزي إلى الهامشي.

ومن هنا، لم تكن الرواية جنسا أدبيا رسميا أو محترما في القرنين 17و18م مقارنة بالشعر والملحمة. بيد أنها أضحت جنسا أدبيا راقيا منذ القرن التاسع عشر الميلادي إلى يومنا هذا. والشيء نفسه يقال عن مجوعة من الأجناس الأدبية، فقد كانت المقامة عند العرب جنسا أدبيا راقيا في العصر العباسي، ولكنه أصبحا جنسا مهمشا في القرن العشرين. ومن ثم، لابد للباحث من تبيان مكانة الجنس الأدبي السامي أو الراقي في علاقته الجدلية بالجنس الأدبي الهامشي، مع رصد التطور التاريخي لذلك الجنس بنية وعلاقة ووظيفة. دون أن ننسى وضع فواصل وعوارض منهجية بين المركز والمحيط، وتسليط الضوء على الحدود الموجودة بينهما، والتمييز بين المنتجات الأولية والثانوية، أو بين المنتجات المحافظة والمجددة. 
وانطلاقا، مما سبق ذكره، أن ثمة مجموعة من الأجناس الأدبية، في عصر من العصور، تتصارع فيما بينها منافسة وتوترا وتطاحنا من أجل تحصيل السلطة والقوة والشرعية والاعتراف المؤسساتي. وبالتالي، يمكن الحديث عن جنس أدبي يحتل مكانة المركز. وفي المقابل، هناك جنس في الهامش أو المحيط. ولكن يمكن للهامش أن يغير مكانته وموقعه وقطبه بفعل التطور والصراع والتجديد، فتتغير الأقطاب الأدبية أو الثقافية.إنه صراع جدلي حاد بين الأجناس. فغالبا، ما يتغلب الجنس المجدد على الجنس التقليدي المحافظ. 

وللتمثيل، فمازالت القصة القصيرة جدا تتصارع، بشكل جدي، مع الشعر والرواية والقصة القصيرة. ويمكن لها، في المستقبل، أن تصبح جنسا مركزيا، فتحل محل الشعر والرواية والقصة القصيرة على حد سواء، ضمن تراتبية هرمية يحددها السياق الثقافي والمؤسساتي والمجتمعي. ودائما، يحل الجديد محل القديم.لذا، تكمن مهمة المقاربة النسقية المتعددة في رصد التغيير المستمر للمواقع، وانتقال من قطب إلى آخر .
وتهدف المقاربة النسقية إلى التمييز بين السجلات المعيارية وغير المعيارية، والتفريق بين الأشكال الأولية والثانوية، وتبيان ماهو مركزي وما هو هامشي، ووصف الصراع الجدلي الموجود بين الأجناس والأشكال الأدبية، ضمن سياق ثقافي معين، على مستوى البنية والعلاقة والوظيفة.
ويقوم نمودج التجنيس، وفق نظرية الأنساق المتعددة، على عقد تماثلات بنيوية ثابتة أو متغيرة بين الأجناس الأدبية.ومن ثم، يجب التمييز بين الظواهر الأدبية وغير الادبية داخل النسق الأدبي نفسه. أضف إلى ذلك أن الأدب نسق أو مؤسسة أو حقل، بمفهوم بيير بورديو، ينقل ما يحيط به، ويتأثر به، إما بطريقة انعكاسية مباشرة، وإما بطريقة غير مباشرة قائمة على التماثل." ويساهم بأدواته الخاصة في خلخلة البنى الجامدة داخل المجتمع، والمساهمة في تطوير وعي الفرد الثقافي والفكري، خارج فضاء النخبة والإقصاء أو التهميش، وبالتالي رد الاعتبار لممارسة غلب على ملمحها التجريد والشكلية المتطرفة من جهة أولى ومواجهة خطر الإقصاء، بله الإبادة التدريجية للعلوم الإنسانية - بما فيها نظرية الأدب والنقد وتاريخهما- بدعوى عدم إنتاجيتها أو مردوديتها أو بدعوى طابعها المجاني من جهة أخرى. ولعل أهمية نظرية الأنساق تكمن هذا بالضبط، إذ تفترض النظرية - ضمن ما تفترضه- فتح الظاهرة الأدبية على مجموع النشاطات الإنسانية الأخرى التي تتبادل معها التأثير والتأثر، أي تفاعل الأبنية الأدبية مع الوقائع الخارج-نصية (Extra-textuel)، أو ما يسميه موزان تفاعل الحياة النصية (vie textuelle) مع الحياة الأنثروبو-اجتماعية (Vie Anthroposociale) (. من هنا تنبثق أهمية دراسة الأدب في تطوره التاريخي ونوعية الصلات التي يقيمها مع باقي المؤسسات الأخرى (السياسية، الدين، اللغة، القانون، التربية، الاقتصاد، المجتمع…الخ) في كل فترة تاريخية، الشيء الذي يتطلب - في المقام الأول- رسم خطاطة تحدد داخلها المفاهيم الأساسية للمقاربة (وظيفة الأدب تبعا لاختلاف العصور والمقامات، التاريخي والأدبي، مفهوم العمل الأدبي، التطور الأدبي، البيوغرافيات، البيبليوغرافيات، التحقيب، المنتخبات، النماذج الأدبية، تاريخية القراءات، الجمهور المتلقي، سوق الكتب، المكتبات، التوزيع، الاستهلاك…الخ). وجميع هذه المفاهيم تؤسس من وجهة نظر خاصة، تصورات، غالبا ما لم ينظر إليها مجتمعة مترابطة ومتفاعلة، بقدر ما نظر إليها منعزلة ومفصولة عن بعضها بعضا. من هنا يأتي طرح مفهوم تعدد الأنساق بوصفه بديلا ينظر إلى الظاهرة الأدبية باعتبارها نسقا، أو بالأصح نسقا كليا (Système globale) تتفاعل داخله أنساق فرعية (sous-système) أو جزئية، ولا يشكل هذا النسق الكلي بدوره سوى نسق مصغر (Micro-système) مندرج داخل نسق أكبر( (Maroc-système. وأخص ما يمتاز تعدد الأنساق ذاك هو الحركية والانتظام والدينامية الناتجة عن تفاعل العناصر المكونة له (الأنساق الفرعية). إنه بتعبير أصح كل معقلن لا مكان فيه للاعتباطية والصدفة. فلا شيء فيه معطى بل مبني، وتلك سمة الأنساق المنفتحة والدينامية، وتعتبر الظاهرة الأدبية - حسب كـليمان موزان- أنصع نموذج عنها." 

وتتكىء نظرية الأنساق المتعددة، في دراسة الأدب، على تصورات الشكلانيين الروس، والسميائيين الثقافيين (لوتمان، وباختين، وأمبرطو إيكو)، والبنيويين اللسانيين (تودوروف)، وعلماء السرد، مثل: جيرار جنيت (Genette) …" فإلى عهد قريب، وحتى في سنوات الستين، استنتج جنيت (G.Genette) ما يلي، وهو بصدد التذكير بإرث الشكلانيين الروس،: "يصبح التاريخ الأدبي وفق هذا الفهم تاريخ نسق… فتطور الوظائف هو الذي يكون دالا، وليس تطور العناصر. وإن معرفة العلائق التزامنية يسبق، حتما، معرفة الإجراءات.وهل علينا أن نضيف إلى ذلك أنه في الفترة ذاتها كان بيير بورديو (P.Bourdieu) يبلور مشروعا لدراسة الحقل الثقافي، حيث طرح ضرورة تجاوز التعارض القائم بين جمالية ذاتية تفرض نفسها في تناول الأثر كنسق يحمل في أحشائه علة وجوده، محددا هو نفسه، داخل انسجامه، مبادئ ومعايير تفكيكه، وبين جمالية خارجية غالبا ما تجهد نفسها لقاء تشويه اختزالي في ربط العمل بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للإبداع الفني،وأن الحقل الثقافي كما يصفه بورديو "غير قابل لأن يختزل إلى ركام بسيط من العوامل المنعزلة، وإلى مجموع إضافي من العناصر المتجاورة ليس إلا". أي: إلى نسق منغلق. بل على العكس من ذلك، و"على غرار الحقل المغناطيسي، يشكل الحقل الثقافي نسق خطوط قوى.بمعنى أن العوامل والأنساق العاملية التي تشكل جزءا لا يتجزأ من الحقل الثقافي في مكنتها أن توصف باعتبارها قوى متعددة تتعارض وتتكون بمجرد انطراحها، مانحة إياه بنية خاصة في فترة زمنية معينة".وبتعبير آخر، إن الحقل الثقافي هو "نسق علاقات تتوطد بين عوامل نسق الإنتاج الفكري".وهذه العوامل هي التي تؤلف النسق ذاته: نقاد، كتبيون، ناشرون، أساتذة بيداغوجيون، معلقون إذاعيون وتلفزيون، عوامل الأخبار الأدبي…إلخ. ولا تخفى امتدادات هذه الفكرة في التمييز الذي يقيمه بورديو بين الحقلين المؤسسين للنسق المذكور. فهذان الحقلان يقومان على التعارض والتكامل بين ما هو تجاري وما ليس كذلك، سواء أتعلق الأمر بحقل الإنتاج الضخم أم بحقل الإنتاج الجماهيري أم حقل الإنتاج المحدود الذي تتناوله تواريخ الأدب على وجه الخصوص، ويوضح بورديو: "علينا الاحتراس من أن نرى في التعارض القائم بين هذين النوعين من إنتاج المكاسب الرمزية التي يتعذر أن تحدد كلها إلا في/عبر علاقاتها، شيئا آخر يختلف عن إنتاج بنية ما للعبور إلى الحد الأقصى. إذ توجد داخل النسق نفسه كل الوسائط بين الأعمال المنتجة من خلال الإحالة إلى معايير ذاتية لحقل الإنتاج المحدود وبين الأعمال المحكومة بتمثيل حدسي أو مصاغة - على نحو علمي- من توقعات جمهور عريض جدا." 
ولا ننسى مدى تأثر نظرية الأنساق المتعددة، في دراسة النسق الأدبي، بنسقية فرديناند دي سوسير.بيد أن نسقية سوسير مغلقة وستاتيكية وجزئية، تنطلق من الفونيمات والأصوات إلى الكلمات والجمل، ولاتتعدى ذلك إلى الأنساق الثقافية الكبرى.وهذا ما يوضحه كليمون موزان بقوله:"وهنا وهناك يتم الاعتراف بتأثير سوسير الذي يعتبر اللسان "نسقا تصبح فيه جميع الكلمات متلازمة بحيث لا تنجم قيمة إحداها إلا عبر الحضور المتزامن للكلمات الأخرى". وهذا التأثير يوضح فكرة تعالق العناصر التي تشكل كلا منتظما عبر الإحالة إلى اللسانيات بوصفها موضوعا. "إنه لوهم كبير أن نعتبر كلمة ما مجرد اتحاد صوت ما مع مفهوم معين. وتحديدها على هذا النحو يعني عزل الكلمة عن النسق الذي تنتمي إليه، أي الاعتقاد بإمكانية البدء بالكلمات وبناء النسق عبر جمع تلك الكلمات، في حين علينا، خلافا لذلك، الانطلاق من الكل المتلازم للحصول، بواسطة التحليل، على العناصر التي يشتمل عليها الكل." 
ويعني هذا أن كليمون موزان يدعو إلى دراسة الأدب، لا على أساس أنه كلمات وجمل مستقلة ومنعزلة عن سياقها الثقافي، بل دراسة الأدب على اعتبار أنه حقل ونسق كلي.أي: يرفض كليمون موزان دراسة الأدب باعتباره علامة لسانية وسيميائية محايدة، تستند إلى الدال والمدلول فقط، بل لابد من استحضار المرجع والسياق الخارجي للنسق.وفي هذا، يقول الباحث:"فمن جهة أولى يلاحظ هنا بوضوح بروز خطاطة الوهم التاريخي للتاريخ الأدبي خصوصا في اعتباره الأدب (الكلمة) بمثابة اتحاد فكرة ما عن الإنسان أو الأثر أو عنهما معا مع فكرة ما عن المجتمع تقدم التاريخ بوصفه نسقا منغلقا، ومن جهة ثانية بروز تاريخ أدبي مختلف يجعل منطلقه الكل المدرك كتشكيل وتنظيم للعناصر التي يسمح داخلها التعالق بتحديد الظاهرة الأدبية في مجموعها بدل عزلها عن النسق الكلي، والإيهام بأن مجموع الكتاب والآثار الأدبية هو الذي يسمح ببناء النسق. "
وعليه، فالنسق الأدبي نسق منفتح ومهجن ومركب ودينامي، يتفرع إلى مجموعة من الأنساق الفرعية التي يترابط معها في علاقات داخلية وخارجية.وفي هذا، يقول كليمون موزان:"وعلى عكس النسق المنغلق يعتبر النسق المنفتح نسقا فكريا وواقعيا في ذات الوقت، ويتعلق الأمر بتنظيم حي أو بتنظيم متضمن للحياة والحركة والتبادل والعلاقة. فلاستمرار النسق ينبغي على التنظيم أن يتقبل ويمنح باستمرار الطاقة والمادة والأخبار. إنه نسق معقد، إذن، يتموضع في مستوى أعلى، وفي وضعية من اللاحتمالية أو اللاتوقعية. ويزودنا التواصل بالسنن الذي يصف الكيفية التي يجب على المادة أن تنتظم بها، وكذا طبيعة الوظائف التي يجب أن تفرض (تقرر) حتى تحافظ على ذاتها بنفسها. إن عدم التوازن شيء ممكن دائما حتى داخل الأنساق الصارمة. فالنسق (الأنساق) المنفتح(ة) يتحول بدوره ليتجه نحو تعقيد متزايد ونحو ترابط داخلي واختلافية تراتبية. ويمكن أن يعتبر النسق المنفتح بمثابة شبكة وتراتبية متعددة المستويات. "
وعليه، يعد الأدب نسقا ثقافيا وسيميائيا متعددا ومركبا ومتنوعا، يتفرع إلى مجموعة من الأنساق الفرعية التي تشكل ما يسمى بثنائية المركز والمحيط.ويخضع النسق الثقافي لثلاثة خاصيات أساسية هي: الانفتاح، والتهجين، والدينامية. وتتحدد الأنساق المركزية، مقارنة بالأنساق الهامشية والمحيطة، بواسطة سجلات ثقافية معيارية مقننة، يسهر عليها الأفراد والجماعات والمؤسسات، وبها تتحدد الثقافة السائدة في فترة زمنية معينة، ومكان محدد.
وخلاصة القول، يعد الأدب عبارة عن مؤسسة اجتماعية ثقافية بامتياز. ويتميز بسجلات مركزية وسجلات فرعية.وبالتالي، فالأدب نسق ثقافي واجتماعي. ويتضمن هذا النسق مجموعة من النصوص والسجلات (Répertoires) التي تتفرع، بدورها، إلى مجموعة من الأنساق والأجناس الأدبية من الدرجة الأولى والدرجة الثانية.
المبحث الثالث: حقل اللسانيات
يهتم الباحث النمساوي ماريو فاندروزكا(Mario Wandruszka) بتعدد الأنساق اللغوية في مجال اللسانيات. وقد جاءت نظريته رد فعل على البنيوية اللسانية عند فرديناند دوسوسير الذي يقول بالنسق الأحادي المغلق. بمعنى أن فرديناند دو سوسير يميز بين اللغة والكلام، على أساس أن اللغة مؤسسة اجتماعية ثابتة، وهي عبارة عن علامات ورموز وظيفتها التواصل.في حين، يعد الكلام تطبيقا للرموز اللسانية في سياق محدد، فهو متغير وذاتي. ومن ثم، فموضوع اللسانيات هو اللغة المجردة الثابتة، وليس الكلام الفردي الواقعي.ومادامت اللغة عبارة عن نظام أو نسق بنيوي داخلي، فلابد من مقاربتها في إطارها السانكروني المحايث، دون تتبعها تاريخيا أو تطوريا أو دياكرونيا.
علاوة على ذلك، إذا كانت اللغة عبارة عن رموز أو علامات، فإنها تتخذ، بطبيعة الحال، طابع نسق سيميولوجي، يتكون من الدال والمدلول، دون استحضار المرجع أو السياق الخارجي. 
أضف إلى ذلك أن دوسوسير يرى أن اللغة عبارة عن نسق داخلي مغلق من العلامات التي لا تتخذ معناها إلا بالاختلاف عن العلامات الأخرى بالمفهوم السلبي، وليس اعتمادا على خصائصها الذاتية بالمفهوم الإيجابي. أي: تتحدد دلالة العلامات اللغوية بالتقابل مع العلامات الأخرى. وبما أن دوسوسير يقول بالنسق ( système )، فقد عد أبا البنيوية، وإن كان، في الحقيقة، لم يستعمل قط مصطلح البنية (structure) في كتاباته اللسانية.
أما ماريو فاندروزكا في كتابه (التداخل اللساني)، فيؤمن بتعدد الأنساق اللغوية وتداخلها لسانيا(interlinguistique)  . ويعني هذا أنه يرفض عملية الفصل بين اللغة والكلام، ويجمعهما في بوتقة لسانية واحدة، ضمن تعددية لغوية مختلطة.
علاوة على ذلك، تتضمن اللغة ثوابت ومتغيرات على حد سواء، ولابد من الإنصات إليها، فلا يمكن الأخذ باللغة المعيارية فحسب؛ تلك اللغة التي تخضع لقوانين وأدوات رمزية مجردة ثابتة، تدافع عنها الدولة الوطنية، وتنتقل عبر الأجيال داخل المدارس التعليمية.بينما اللغة الطبيعية نسق لغوي متعدد من الثوابت والمتغيرات والأنساق اللغوية الفرعية(اللهجات الجهوية، لهجات الطبقات الاجتماعية، واللغات التقنية). ومن ثم، يصبح التنوع المعياري هو الأساس المشترك للغات. ومن ثم، يمكن الحديث عن لغات مركزية معيارية، ولغات هامشية فرعية. وفي الوقت نفسه، يمكن الحديث أيضا عن متكلمين متعددين وسامعين متعددين، ضمن بوليفونية لغوية ولسانية ولهجية .
إذاً، يؤمن فاندروزكا بالتداخل اللساني، والجمع بين اللغة والكلام، وتشعب الأنساق اللغوية الكبرى إلى أنساق لغوية فرعية. كما يعترف بالازدواجية اللغوية ، والتعددية اللغوية، والجمع بين الثوابت والمتغيرات اللسنية. وهذه النظرية معروفة، الآن، في الفضاءين الثقافيين: الجرماني  والإسباني. 
وهكذا، يتبين لنا أن ماريو فاندروزكا ينطلق من فرضية أساسية هي أن اللغة عبارة عن أنساق لسانية متداخلة ومتعددة ومختلطة، وليست نظاما أو نسقا أحاديا ومغلقا ونقيا، كما يقول بذلك فرديناند دوسوسير في كتابه (محاضرات في اللسانيات العامة) .

المبحث الرابع: حقل الثقافة

ينطلق إيفان زوهار، من تصورات سوسيولوجيا الثقافة، في بناء نظريته المتعلقة بالأنساق المتعددة، من خلال الربط بين ماهو ثقافي ومجتمعي،والبحث عن مجمل العلاقات الموجودة بين النسقين، ضمن رؤية جدلية تفاعلية أو تماثلية.ويعني هذا أن إيفان زوهار قد اهتم بسوسيولوجيا الثقافة، وفق نظرية الأنساق المتعددة.ويذكرنا هذا التماثل بين البنى الأنساق الثقافية والبنى المجتمعية بالبنيوية التكوينية لدى لوسيان كولدمان(Lucien Goldmann).
كما يؤمن إيفان زوهار بنظرية السجلات الثقافية، إذ يرى أن الحقل الثقافي تتحكم فيه الأنساق المتعددة، على أساس أن ثمة تفاعلا وتواصلا وتلاقحا واحتكاكا وتلاقيا بين مجموعة من الأنساق المتجاورة التي تشكل ظاهرة المثاقفة. ويعني هذا أن ليس هناك حياد ثقافي محض، بل هناك ترابط ثقافي بين الأنساق الداخلية والأنساق الخارجية. و يوجد تداخل فعال بين الفضاءات الثقافية المختلفة والمتنوعة، ضمن سيمياء الكون على حد تعبير يوري لوتمان(Lotman). 
ومن ثم، تنتقل الأنساق الثقافية، عبر الثقافة والترجمة، من فضاء إلى آخر، ومن حقل إلى آخر. وبالتالي، تسعى نظرية الأنساق المتعددة إلى وصف الأنساق الأدبية والثقافية، وتحديد وظائفها، وتبيان الطرائق التي يتم بها نقل النسق من فضاء إلى آخر. لذا، يتم الحديث عن الخطابات المتداخلة والشبكات التناصية. ويمكن التمييز أيضا بين الثقافة العالمة والثقافة الشعبية، والتركيز على الحوار الثقافي. ومن هنا، تقترب نظرية الثقافة عند إيفان زوهار من سيمياء الكون لدى يوري لوتمان. 
وثمة أنساق ثقافية مركزية ثابتة تعتمد على معايير أصولية ثابتة ومقننة. في حين، تمتاز الأنساق المحيطة بالتغير والتحول والتطور، وتمتح من الحداثة والتجريب والتجديد على حد سواء. بمعنى أن المركزي دائما يحافظ على وضعه ومكانته وفق قواعد ومعايير مقننة. بينما يحاول الهامش أن يخلخل الثابت بانزياحه عن السجلات المحافظة التقليدية.
ويعني هذا أن النسق الثقافي المركزي يتفرع إلى مجموعة من الأنساق الثقافية الصغرى. لكن النسق الفرعي يمكن أن يتحول إلى نسق مركزي. وبدوره، يتفرع إلى نسق فرعي آخر. وهكذا، دواليك. ويعني هذا أن الأنساق الثقافية تدخل في صراع جدلي ضمن ثناية المركز والمحيط. وهنا، تأثر جلي بالنظرية التفكيكية لدى جاك ديريدا (Derrida) التي تحدثت عن المركز والهامش، والصراع الجدلي بينهما.
ويكون النسق الثقافي مركزيا بفعل القوة والسلطة وفعل التأثير عن طريق الترجمة التي تعكس قوة ثقافة ما مقارنة بثقافة أخرى. ويعني هذا أن المغلوب يقلد دائما الغالب في لغته وأفكاره وثقافته وآدابه، ويختار نصوصه على أساس أنها نماذج عليا ومثلى للاحتذاء والتمثل والتشرب والتقليد. 
ويلاحظ أن ترجمة نسق ثقافي خارجي يكون أفضل من نسق ثقافي داخلي، مادام هذا النسق يستورده النسق الثقافي الداخلي، ويحوله إلى ثقافة ذات قيمة معيارية في السياق المجتمعي والثقافي لنسق الاستقبال.ومن ثم، يتحول المترجم الأجنبي إلى مركز، ويصبح نسقنا الثقافي الداخلي أو المحلي أو الوطني محيطا أو هامشا. لكن قد يساعد هذا على خلط النسق الثقافي المحلي بالنسق الثقافي المستورد، ضمن رؤية ثقافية مهجنة أو متفاعلة. 
وثمة عوامل اجتماعية وثقافية وعالمية وفردية عدة تسهم في ضرورة نقل الثقافة من فضاء إلى آخر، ولاسيما إذا توفرت في المستورد الثقافي مجموعة من الخصائص، مثل: الثقافة، والنصية، والنسقية، والكفاية، والمقبولية، والجودة، والحداثة، والرؤية التجديدية... 
وهكذا، يناقش إيفان زوهار المسألة الثقافية في ضوء نظرية الأنساق المتعددة، إذ يتحدث عن ثقافات مركزية وثقافات فرعية، أو ثقافات كونية وثقافات هامشية، مثل: الأدب الشعبي، والفن الشعبي...ويمكن لثقافة الهامش أن تحل محل ثقافة المركز. في حين، يمكن أن تضمحل ثقافة المركز وتنقرض وتموت لتعود مرة أخرى. 
وعليه، تتميز الثقافات بتنوعها وتعددها واختلافها وتداخلها، وتعدد سجلاتها وأنساقها وحقولها.ومن ثم، تستند سيميوطيقا الثقافة إلى دراسة مختلف الثقافات، ضمن كون سيميوطيقي متعدد ومتداخل ومتفاعل، عبر آليات عدة، مثل: المثاقفة، والتهجين، والتكامل، والترجمة، والحوار، والاختلاف، والتبادل الثقافي...

المبحث الخامس: حقل الترجمة

قدمت نظرية الأنساق المتعددة تصورات نظرية مهمة حول الترجمة بصفة عامة، والترجمة الأدبية بصفة خاصة. ولايمكن تبيان ذلك إلا بتعريف الترجمة، ورصد نظرياتها وتقويمها واحدة بعد الأخرى على النحو التالي:

المطلب الأول: مفهوم الترجمة

من المعلوم أن الترجمة هي نقل نص من لغة إلى أخرى، أو من ثقافة إلى أخرى.ويسمى النص المنقول أو المترجم (Le texte traduit) بالنص المصدر، أو نص الانطلاق( « langue source », ou « langue de départ »,).في حين، يسمى النص المترجم إلى لغة الأم بالنص الهدف، أو نص الاستقبال، أو نص الوصول(« langue cible », ou « langue d'arrivée »). ومن ثم، تهدف الترجمة إلى تقريب معنى النص المترجم، في لغة المصدر، إلى المتلقي في لغة الاستقبال، مع مراعاة النسقين الثقافيين المختلفين لنص الانطلاق ونص الهدف. ويعني هذا أن المترجم لابد أن يمتلك مجموعة من القدرات الكفائية لممارسة الترجمة، مثل: القدرات اللسانية، والقدرات الثقافية، والقدرات التفسيرية والتأويلية، والقدرات العلمية والفكرية، وقدرات الممارسة والتطبيق، والتعود على فعل الترجمة، بل يجب على المترجم أن يلم بلغة الأم ولغة المصدر على حد سواء. علاوة على امتلاكه لقدرات الكتابة الإبداعية أو الصحفية أو النقدية، إلخ...
و يمكن الحديث - اليوم- عن علم الترجمة (Traductologie) الذي يدرس فعل الترجمة دراسة علمية وصفية وتحليلية مقننة. 
ومن هنا، فالترجمة هي تأويل المعنى في نص لغة المصدر، وإنتاج نص له معنى مماثل وقريب من لغة المتلقي وثقافته في النص الهدف. وبالتالي، فالترجمة نشاط إنساني بامتياز، يلتجىء إليها المترجم من أجل استيعاب ثقافات الآخرين، ضمن نسق تواصلي ثقافي كوني.أي: الترجمة علامة حقيقية على فلسفة الانفتاح والتبادل والتفاهم والتعايش بين الشعوب المتجاورة أو المتباعدة. وبالتالي، تسهم الترجمة في إغناء التكامل الثقافي المتعدد والمتنوع، وإنعاشه ماديا ومعنويا. وإن كانت الترجمة - اليوم- تتجاوز الخاصية الإنسانية إلى البعد الآلي والتقني.لذا، أصبح الحديث، اليوم، عن الترجمة الآلية أو الرقمية التي يقوم بها الحاسوب.
ومن جهة أخرى، تهدف الترجمة إلى خلق مماثلة معنوية، أو تقارب دلالي، بين نص المصدر ونص الهدف، بمراعاة مجموعة من السياقات اللغوية والدلالية والثقافية للنصين معا، على الرغم من وجود اختلافات بين اللغتين على مستوى النحو والتركيب والسياق. ويعني هذا أن الترجمة هي التي تجعل نص المصدر مفهوما بالنسبة للمتلقي الذي لايملك معلومات أو ثقافة ما عن النص المصدر.
وهناك فرق دقيق بين الترجمة والتأويل، فالترجمة (la traduction) هي تحويل الأفكار المعبر عنها كتابة من لغة إلى أخرى.في حين، يقتصر التأويل(L’interprétation) على ترجمة الأفكار المعبر عنها شفويا أو سيميائيا. ومن ثم، يعد التأويل جزءا من الترجمة، وفعلا مكملا لها.
إذاً، تقوم الترجمة على تقريب المعنى ونقله وتحويله وتأويله من نص المصدر إلى نص الهدف، على أساس أن الترجمة تقريب بين المعاني مماثلة ووفاء وضبطا، وليست خيانة كما يقال. أما عن طرائق الترجمة، فهناك التقليد والمحاكاة، والاستنبات، والاقتباس، والنقل، والتحويل، والتأويل، والإبداع...
وإذا تتبعنا تاريخ الترجمة، فثمة تاريخ عريض لفعل الترجمة، يصعب استقصاؤه في هذا الحيز الضيق . فضلا عن مؤلفات نظرية، و أعمال تطبيقية، و دراسات تاريخية، و كتابات عدة تعرف بالمترجمين من جهة أولى، وكتاباتهم المترجمة من جهة ثانية، ومقدمات الأعمال المترجمة من جهة ثالثة. ومن ثم، فالترجمة نشاط كوني يعبر عن تعدد اللغات، وتعدد الثقافات، وتعدد الهويات،ولابد من مراعاة سياقها السياسي والاجتماعي والتاريخي والثقافي واللساني.

المطلب الثاني: نظريات الترجمة

ثمة مجموعة من النظريات والتصورات حول فعل الترجمة وممارستها نظرية وتطبيقا، ويمكن حصرها في ست نظريات أو تيارات مهيمنة هي:

النظــرية التفسيريــة أو التأويليــة(Théorie interprétative)

 تمثلها مدرسة باريس في شخصيتي: دانيكا سيلوكوفيتش(Danica Seleskovitch) وماريان ليديرير(Marianne Lederer) ، وهمها الأول والأساس هو رصد معنى العمل المترجم وتفسيره وتأويله، وفهمه ضمن مسار الترجمة .
 بمعنى أن ما يهم المترجم هو تأويل معنى النص، وليس التركيز على اللغة في حد ذاتها؛ لأن اللغة مجرد حامل أو وعاء أو ناقل للرسالة التواصلية أو التبليغية. ويمكن أن تكون اللغة معرقلة في نقل المعنى الهدف.لذا، ينبغي عدم التركيز على تفكيك الشفرة اللغوية بشكل حرفي أثناء ممارسة عملية الترجمة، والاكنفاء بنقل المعاني من نص المصدر إلى نص الهدف بتأويلها وتفسيرها..

 النظريـــات الأدبيــة:

ترى هذه المقاربة أن الترجمة ليست فعلا لسانيا أو لغويا، بل هي عملية أدبية محضة، كما يثبت ذلك إدمون كاري(Edmond Cary). ومن ثم، لايمكن ترجمة نص شعري إلا إذا كان المترجم شاعرا مبدعا. ويعني هذا أن ما يهم، في النص المترجم، هو الطاقة الحيوية للغة. ومن ثم، تعبر اللغة عن المعيش الثقافي والتاريخي للمبدع أو الأديب.بيد أن الطاقة الحيوية هي التي تجعل هذه الكلمات تشحن بدلالات مؤثرة في فعل الترجمة. 
ومن أهم أعضاء هذه النظرية إزرا باوند(Ezra Pound)، ووالتر بنجامين(Walter Benjamin)، وهنري ميشونيك(Henri Meschonnic)، وأنطوان بيرمان(Antoine Berman)...

 النظــرية اللسانية الاجتماعية:

ترى هذه النظرية أن البنية المجتمعية هي التي تحدد ما ينبغي ترجمته أو عدمه، وما هو مقبول وغير مقبول، عن طريق الانتقاء والاصطفاء والاختيار والاستبيان...ومن ثم، فالمترجم هو نتاج مجتمعه، يترجم وفق زاده المعرفي والثقافي والمجتمعي.
وتعد مدرسة (تل أبيب) الإسرائيلية خير من يمثل هذه النظرية، ومن أهم أعضائها: آني بريسي(Annie Brisset)، وإيفان زوهار (Even Zohar)، وجدعون توري(Guideon Toury).
هذا، وقد طرحت مفاهيم أخرى، ضن هذا التصور النظري، مثل: المماثلة الديناميكية والشكلية كما عند نيدا (Nida) وتابير(Taber). لذا، فالمهم، في كل فعل ترجمي، هو أن يترك نص الهدف الأثر نفسه الذي تركه النص المترجم في متلقيه الأصلي.أي: لابد من تقريب متكافىء، أوبحث عن تماثل تطابقي بين نص المصدر ونص الاستقبال على مستوى التلقي والتأثير والاستقبال.
 ويعني هذا أن الترجمة الحقيقية هي الترجمة المفهومة و المقروءة والمقبولة، بالبحث عن أوجه التشابه والتقارب والمماثلة بين نصين مختلفين لغة وثقافة وسياقا. بمعنى أن تكون الترجمة وفية، وليست خائنة، كما يثبت ذلك جان كلود مارجو (Jean Claude Margot) في كتابه (ترجمة بدون خيانة).

 النظريــات اللسانيـــة:

ترى مجموعة من النظريات اللسانية، بما فيها البنيوية، والوظيفية، والتداوليات، ولسانيات النص، أن الفونيمات، والمورفيمات، والمونيمات، والمركب، و الجملة... هي وحدات لسانية مهمة في عملية الترجمة. بمعنى أن الترجمة لايمكن أن تحقق أهدافها إلا بمراعاة الوحدات اللسانية، كالتراكيب، والجمل، والمركبات...مادام النص المترجم مبنيا بواسطة الوحدات اللغوية واللسانية اتساقا وانسجاما وترابطا وتعالقا.
ومن أهم ممثلي هذه النظرية جورج مونان(George Mounin)، وفيناي(Vinay)، وداربيلنيت(Darbelnet)، وجون أوستين(J.I Austin).
النظريات الفلسفية والهرمونيطيقية:

تنبني هذه المقاربة - التي يمثلها جورج شتاينر(George Steiner)- على استخدام مجموعة من المفاهيم الفلسفية والهرمونيطيقية في فهم فعل الترجمة.بمعنى أن المترجم الحقيقي هو الذي يلبس لباس مبدع من أجل القبض على مقصديات كاتب نص المصدر، أو نص الانطلاق، بتتبع أربع خطوات أساسية هي: العنف، والوفاء، والحياد، والبناء.
المقاربات السيميوطيقية:
من المعلوم أن السيميوطيقا علم يدرس العلامات وأنساق الدلالة دراسة بنيوية محايثة، بالتركيز على السميوزيس القائم على عناصر ثلاثة هي: الدال، والمدلول، والمرجع، حسب فرديناند دوسوسير(F.DE Saussure)؛ أو على العلامة، والموضوع، والممثل، حسب بيرس(Peirce). 
ومن ثم، فالترجمة وفق المنظور السيميوطيقي عبارة عن شكل من أشكال التأويل لنصوص ذات حمولات دلالية موسوعية مختلفة، وسياق سوسيوثقافي خاص.
ومن ناحية أخرى، يمكن الحديث عن تصنيف آخر لنظريات الترجمة بهذه الطريقة:
نظرية التأويل( Théorie de l’intrépretation): تهدف هذه النظرية إلى تأويل معاني النص المترجم وتقريبه إلى المتلقي في ثقافة الاستقبال، بنقل مختلف المعاني التي يحملها النص المصدر، وتضمينها في النص الهدف،دون الاهتمام باللغة حامل الرسائل والمقصديات. فما يهم المترجم هو المعنى، وليس اللغة. 
نظرية العمل:(Théorie de l’action) تركز على الدور المهم لعمل المترجم باعتباره وسيطا بين المنتج الآمر والمستهلك؛
 نظرية سكوبوس:(Théorie de Scopos) التي ترى أنه لايمكن الحديث عن ترجمة في غياب هدف محدد.ومن ثم، فوظيفة النص أو غاية العمل هي التي تحدد طريقة ترجمته .ويمثل هذه النظرية هانز فيرمير(Hans J.Vermeer).
وتعني سكوبوس، في اليونانية، الهدف، والغرض، والمقصدية، والغاية، والمرمى...وبهذا، يرتبط الفعل الترجمي بالغاية والمقصدية المبتغاة.
 نظرية اللعبة (Théorie du Jeu): تستلزم معرفة قواعد لعبة الترجمة، ومعرفة سياقها، والتحكم في آليات الترجمة قبل الشروع فيها؛ نظرية الأنساق المتعددة (Théorie de poly-système) : ترى هذه النظرية أن الترجمة جزء من الكل، أو نسق ضمن مجموعة من الأنساق الكلية الأخرى، كإدراج النسق الأدبي- مثلا- ضمن أنساق أخرى، ويتطلب ذلك معرفة المعايير والقواعد التي يخضع لها النسق، قبل الشروع في الترجمة وفق نسق معين، أو أنساق أخرى مختلفة  . وهنا، الاهتمام بأنماط النصوص وسياقها.
نظرية الممارسة (Théorie de pratique): نظرية ديدكتيكية قائمة على تدريس مختلف نظريات الترجمة، ومحاولة تطبيقها عمليا في شكل تطبيقات وتمارين بيداغوجية، بالتركيز على الاستعمال الإيجابي، وترك المجرد. فما يهم المترجم هو معرفة مختلف أنساق ثقافة الهدف التي يترجم إليها العمل الأدبي. والهدف من ذلك هو جعل الترجمة تراعي أفق انتظار المتلقي قبولا ورضا (مفهوم المقبولية )، وتتناسب مع معايير النسق الثقافي الموجود في لغة الهدف، وما سيقوم به من أدوار في إغناء النصوص الأدبية، وإثراء مختلف الأشكال الأدبية ضمن مجموعة من الأنساق المتنوعة والمتداخلة .
وعليه، فلقد استفاد علم الترجمة من التصورات النظرية التي تطرحها الأنساق المتعددة لمعرفة الدور الذي تقوم به الترجمة الأدبية، داخل نسق أدبي خاص من جهة، و التثبت من فعالية هذه النظرية فيما تقدمه من فوائد لهذا العلم من جهة أخرى.
ومن ثم، يرى إيفان زوهار أن على المترجمين التركيز على النص الهدف أكثر من الاهتمام بالنص المصدر، ومراعاة هذا النص لأفق انتظار المتلقي المستقبل، وانسجامه مع سياقه الثقافي والمجتمعي، وإشباع غليله في ذلك، بانتقاء النصوص الهادفة والبناءة والمتميزة والحداثية، وإعادة كتابتها من جديد، وفق تلك المعايير التي يتحكم فيها سياق الاستقبال.ومن ثم، فالترجمة الأدبية تحتل مكانة هامشية على مستوى نسق الاستقبال مقارنة بالأنساق الأدبية الأخرى.
وتعبر الترجمة عن عوالم وأنساق ثقافية متعددة تتفاعل فيما بينها، وتعكس منطق التفاوت ضمن ما يسمى بالمركز والمحيط، أو المهيمن والخاضع، والغالب والمغلوب.بل تصبح الترجمة أداة لاستيراد حضارة الآخر وثقافته وحداثته.لذا، يكون فعل الترجمة من المركز إلى الهامش بشكل مستمر وقوي.في حين، يضعف هذا الفعل من المحيط نحو المركز؛ بسبب التفاوت الحضاري والعلمي والتقني.ويعني هذا أن الثقافة المحلية أو الوطنية لاتقوى على مجابهة الأنساق الثقافية الأجنبية التي تمتلك قوة المعلومة، وتحتكر العلم والثقافة والتقنية. ومن ثم، تسهل الترجمة عملية التقارب والتفاهم والتكامل بين الأنساق المركزية والأنساق الهامشية.
وهكذا، يتبين لنا أن الترجمة الأدبية تتغير مواقعها السلطوية داخل فضاء الأنساق المتعددة. وتعبر الترجمة عن تداخل العلاقات والثقافات، وتفاعل الأنساق الثقافية وفق منطق القوة والسلطة والهيمنة. فما يقع على مستوى الأدب علويا يقع على المستوى السفلي اجتماعيا وثقافيا وحضاريا.وبالتالي، تشكل الترجمة نسقا فرعيا ضمن الإطار الثقافي العام لنسق الاستقبال. ومن ثم، فهي ليست نسقا مستقلا أومحايدا، لها منطقها الخاص، بل تخضع الترجمة النسقية لعلاقات متداخلة ومتفاعلة ومترابطة مع الانساق الأخرى الحاضرة.
ولاتتعلق الترجمة الأدبية بالتعددية اللغوية واللسانية، بل بالتعددية الثقافية.ويعني هذا أن فعل الترجمة يمارس وفق سياق ثقافي عام، لابد من استحضاره ومراعاته أثناء مباشرة فعل الترجمة. أي: ليست الترجمة شاطا لسانيا، بل نشاط ثقافي محض. ومن ثم، ليس تحليل النص المترجم عملا مستقلا وغير خاضع لمفهوم المطابقة، بل هو وحدة بنيوية داخل الإطار العام للنسق المستقبل. كما أن إجراءات الترجمة غير خاضعة للتحليل اللساني، بل خاضعة للمعايير التي يفرضها السياق الثقافي والمجتمعي بالمفهوم العام (الأجناس الأدبية، والإيديولوجيا المهيمنة، والسياق السياسي)... 
وقد تبني توري جدعون سنة 1995 م هذا المنظور النسقي المتعدد لدراسة الترجمة الأدبية، ضمن مقاربة علمية ووصفية نسقية. ويعتبر توري جدعون الترجمة تحويلا متعدد اللغات من جهة، وتحويلا حواريا وتناصيا من جهة أخرى. وثمة علاقات تبعية بين مختلف عناصر الترجمة .
هذا، ويعد إيتامار إيفان زوهار من أهم المنظرين لعلم الترجمة (Traductologie) إلى جانب زميله جدعون توري(Gideon Toury) ، وخاصة فيما يتعلق بالترجمة الأدبية. وهما المؤسسان الحقيقيان لمدرسة تل أبيب في الترجمة، وقد تركا تأثيرا كبيرا في المترجمين الفرنسيين، وخاصة لورنس مالينجري ( Laurence Malingret)؛ والمترجمين البلجيكيين، وخاصة جوزي لامبير ( José lambert)، والمترجمين الكنديين بما فيهم آني بريسي(Bresset)…
ومن ثم، تعد الترجمة أهم مثال حي يعبر عن نظرية الأنساق المتعددة.فعن طريق الترجمة، تتجاور الأنساق وتتحاور وتتواصل وتتفاعل في علاقتها بسياقاتها التاريخية والثقافية. وقد قامت الترجمة بدور هام في نقل النظريات والمدارس والتيارات الأدبية من نسق لغوي أجنبي نحو نسق لغوي مستورد، بهدف الانفتاح على المستجدات في مجال الأدب، والاطلاع على حضارات الشعوب المجاورة. وقد رأينا كيف ترجم النهضويون التراثين: اليوناني والروماني، وما تركته الترجمة الألمانية لإنجيل لوثر من تأثير كبير في تطور اللغة الألمانية. ويعني هذا أن الترجمة تسهم في إثراء الثقافة المحلية والوطنية والكونية استيرادا أو تصديرا.
وقد كانت للعلاقات الاقتصادية، وتطور وسائل الإعلام، منذ منتصف القرن العشرين، دور كبير في إغناء الترجمة كما وكيفا، كما تثبت ذلك إحصائيات اليونيسكو بشكل واضح وجلي. وتعكس الترجمة- حسب نظرية الأنساق المتعددة- تطور اللغات المهيمنة والمسيطرة مقارنة باللغات المهيمن عليها، فترجمة الأعمال الغربية من اللغات الأجنبية الأوروبية، مثل: الفرنسية، والألمانية، والإنجلزية...إلى لغات الهامش أو المحيط، لتعبير صادق عن تفاوت حاد بين الأنساق اللغوية والتاريخية والاقتصادية والاجتماعية. ومن ثم، فهناك تقليد دائم للغالب من قبل المغلوب كما يرى ابن خلدون. فهناك ثقافة غربية مركزية مسيطرة، وثقافة فرعية مهمشة خاضعة للثقافة الأولى تقليدا واحتذاء وترجمة. ويعني هذا أن ممارسة الترجمة تعبير صارخ عن صراع اللغات والثقافات والمجتمعات. فترجمة الأنساق من السياق الأجنبي نحو السياق العربي أكثر من ترجمتنا لموروثنا نحو اللغات الأجنبية. إذا، فالترجمة تعبير عن تعددية لسانية وتعددية وطنية ضمن سيمياء الكون. كما تعبر الترجمة عن درجة الوعي الموجودة لدى إنسان نص المصدر وإنسان نص الاستقبال. 
ويرى إيفان زوهار أن الترجمة عامل أساسي في نقل الثقافات والمرجعيات المختلفة، ونقل الأنساق المختلفة والمهجنة والمتنوعة والمتعددة من فضاء ثقافي إلى آخر، تصديرا واستقبالا، مع رصد مختلف الوظائف والأدوار التي تؤديها الأنساق المختلفة.
ومن هنا، تعبر الترجمة عن الأنساق في تعددها واختلافها وتنوعها وتشعبها. ويتضمن كل نسق مجموعة من الأنساق الفرعية، مثل: النسق الثقافي، والنسق الاجتماعي، والنسق السياسي، والنسق الديني، والنسق الاقتصادي...وتندرج هذه الأنساق ضمن النسق السيميوطيقي العام. وتتعرض هذه النظرية النسقية المنفتحة مع البنيوية الفرنسية المنغلقة. ولكن ليس هناك تعارض أو تناقض في الجمع بين الأنساق المتعددة والمختلفة، مادامت تتكامل فيما بينها. ومن ثم، تنتمي الترجمة الأدبية(نسق فرعي) إلى نسق الأدب المقارن الذي بدوره ينتمي إلى النسق الأدبي، وهذا بدوره ينتمي إلى النسق الثقافي الذي بدوره ينتمي إلى النسق السيميوطيقي العام.
وتقوم الترجمة ببلورة سجلات ثقافية جديدة في لغة الوصول أو لغة الهدف.إذ تعرفنا الترجمة بطرائق الكتابة، وتبين لنا تقنيات التأليف المستمدة من لغة المصر أو المنطلق.ويقال هذا على مستوى النسق المركزي.أما فيما يخص المحيط، فلا دور له في مغالبة النسق المركزي أو التأثير فيه. وتساعد الترجمة الأدبية على تطوير الأنساق الأدبية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والمجتمعية، والدينية، والفلسفية...أي: تبنى الثقافات المختلفة عبر فعل الترجمة.
ومن ناحية أخرى، يرى توري جدعون  أن الترجمة خاضعة لمبدأين أساسين هما: الكفاية والمقبولية. بمعنى أن نقل نسق من الخارج إلى الداخل يتطلب استعمال نسق لساني مفهوم وواضح من أجل استيعابه بشكل جيد. بمعنى أن يكون الأسلوب واللسان متناسبين مع معايير اللغة الهدف.وهناك التمييز بين النص المصدر والنص الهدف، أو النص الأصلي والمتناص، والنص السابق والنص اللاحق .
ويعني هذا أن الترجمة تخضع لشرطين أساسيين هما: المقبولية(accéptabilité)، و التوافق أوالتلاؤم أو التناسب أو التقارب (adéquation). بمعنى أن الترجمة لايمكن الاعتراف بها إلا إذا كنت مقبولة نسبيا، ومتناسبة مع النص الأصلي. ومن هنا، فالترجمة بمثابة تقابل أو مماثلة أو تقريب نص المصدر من نص الهدف، وخاصة في ما يتعلق بالترجمة الأدبية. أي: تقريب النص المصدر من النص الهدف، وفق المعايير الأدبية واللسانية السائدة في الحقل الثقافي للغة الهدف.وتعكس الترجمة التفاوت الموجود بين الأنساق المهيمنة والأنساق الخاضعة، أو الاختلاف البائن بينونة صغرى أوكبرى بين الأنساق المركزية والأنساق الهامشية.
وتتميز ترجمة توري جدعون بكونها ترجمة وصفية ، وليست ديدكتكية أو تعليمية تعلم قواعد ممارسة الترجمة مهنيا وحرفيا وتقنيا، بل هي بعيدة عن إصدار الأحكام التفضيلية والتقويمية، وترتبط بنظرية السجلات والمعايير ...
أضف إلى ذلك أن الترجمة المقارنة تعكس لنا العلاقات المتداخلة بين الأنساق والمرجعيات.ولايكون النسق المترجم محايدا ومنفصلا عن باقي الأنساق المتجاورة الأخرى، مثل: الأدب، والترجمة، والدين، والمجتمع، والسياسة، والاقتصاد، والآداب الأجنبية...ويخضع هذا كله للنسق السيميائي العام. ويعني هذا أن نظرية الأنساق نظرية سيميوطيقية بامتياز، تتكون من الأنساق الكبرى والأنساق الصغرى، وتشتغل على السجلات الثقافية بنية ووظيفة وتطورا وسياقا.
وللتوضيح، يدفعنا النسق الرومانسي إلى دراسة أنساق خارجة عن الأدب، مثل: الفن، والسيرة الذاتية، والمجتمع، والفنون، والآداب الأخرى...أو ما يسمى أيضا بخارج الأدب في علاقة تماثلية أو موازية. ويعني هذا لابد من إقامة تواز بين النسق الداخلي للأدب والأنساق الخارجة عن الأدب، مثل: الفن، والدين، والسياسة، والاقتصاد، والمجتمع، والترجمة، والفنون الأدبية الأخرى.
 ويمكن الحديث عن محيط أدبي في علاقة بالنسق الأدبي المركزي، يتمثل في: الصحافة، والإعلام، والمواقع الإلكترونية، وأندية الثقافة، ودور الطبع والنشر والتوزيع، والمؤسسات الراعية للآداب، والمنتجين، والمستهلكين، والمكتبات، وظروف الإنتاج الأدبي، والتمييز بين النصوص المعروفة والنصوص المغمورة، وفق سجلات مقننة وغير مقننة.
إذا كان توري جدعون وإيفان زوهار قد اهتما بالترجمة الأدبية نظرية وتطبيقا، فإن زوهار شافيت  قد اعتنى بنظرية الترجمة المتعلقة بأدب الشباب، مستوحيا في ذلك نظرية الأنساق المتعددة  .
علاوة على ذلك، تتأثر الترجمة بسياقها الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني والإيديولوجي، وتمارسها مؤسسات تملك القوة والسلطة والشرعية، وتوجه المتلقي حسب قناعات المؤسسة الحاكمة أو المهيمنة. 
وما يهم نظرية الأنساق المتعددة كذلك هو معرفة مكانة الأدب المترجم في النسق الثقافي المغاير أو لدى الآخر، وكيف يتم استقبال النص المنطلق أو النص المصدر، وكيف يترجم، وكيف يؤول. ومن ثم، فالترجمة تعبر عن تعدد الهويات المختلفة، وتبادل الثقافات والأنساق اللغوية والأدبية والثقافية.
وإذا كان أنطوان بيرمان (A.Berman) يدافع عن نص المصدر، فإن نظرية الأنساق المتعددة تدافع عن نص الهدف، أو نص الاستقبال.بمعنى أن جدعون توري ركز كل أفكاره النسقية على النص اللاحق، أو النص الهدف، مركزا على تأثر الترجمة بثقافة المستقبل تحليلا ونقلا وتحويلا وتركيبا.
 ومهما كانت أهمية الترجمة ووظيفتها ومصدرها وأصلها ومنطلقها، فالمهم أنها تتأثر بثقافة المستقبل تأويلا وإلحاقا وتلقيا وتفاعلا. في حين، تركز مدرسة باريس التأويلية على النص في حد ذاته بغية تأويل معانيه، ورصد دلالاته الظاهرة والثاوية.
 وخلاصة القول، ما يهم نظرية الأنساق المتعددة، في مجال الترجمة الأدبية، هو النص الهدف من جهة، وعملية الوصف من جهة ثانية.أي: وصف عملية الترجمة وتفسيرها في مسارها، بالتركيز على وظيفة الترجمة، ورصد مختلف التشوهات والانحرافات التي تصيب السجلات والمعايير اللغوية واللسانية والثقافية، عند نقل نص المصدر إلى نص الهدف. وتهدف النظرية أيضا إلى معرفة مكانة الترجمة ضمن ثقافة الاستقبال باعتبارها نشاطا أو منتجا سياقيا وتناصيا.

الفصل السادس

تقويم نظرية الأنساق المتعددة
من المعروف أن كل نظرية أدبية ونقدية وثقافية واجتماعية يمكن تقويمها وإخضاعها لمشرح النقد والنقاش والحوار.بمعنى أن لكل نظرية نقدية إيجابيات وسلبيات، يمكن تحديدها بشكل علمي دقيق.وينطبق هذا أيضا على نظرية الأنساق المتعددة التي وجه لها مجموعة من الانتقادات الشكلية والمنهجية والوضوعية من قبل دارسين وباحثين في مجال الأدب والثقافة والترجمة. 
المبحث الأول: إيجابيات نظرية الأنساق المتعددة
تعد نظرية الأنساق المتعددة من أكثر النظريات الأدبية والنقدية أهمية وقيمة وانتشارا في العالم، وخاصة في فترة ما بعد الحداثة. وقد ارتبطت بمدرسة تل أبيب بصفة عامة، و بإيتامار إيفان زوهار بصفة خاصة. وقد انتشرت النظرية، بشكل لافت، بين طلبة الأدب والنقد والثقافة والترجمة، وخاصة في الصين وإسبانيا.
و ما يميز هذه النظرية أنها تنبني على مجموعة من المبادئ الأساسية، مثل: النسقية، والتعددية، والانفتاح، والتهجين، والدينامية، والجمع بين البنية والعلاقة والوظيفة، والاستعانة بمبدأ التقنين بواسطة السجلات الثقافية، والتركيز على مختلف العلاقات التي تتحكم في الأنساق المتعددة، فضلا عن مبدأ التناص، والاهتمام بالأدب، واللسانيات، والترجمة، والثقافة، والأجناس الأدبية، والأدب المقارن...
وهكذا، يتبين لنا أن النظرية المتعددة الأنساق هي مقاربة وصفية وتفسيرية وتاريخية منفتحة، وقد انتشرت في إسرائيل، وبلجيكا، وهولندا، وكندا، والنمسا...ومن ثم، فهي تعتبر الترجمة ظاهرة ثقافية مرتبطة بالسياق الثقافي لدى المستقبل.ومن ثم، فهي مقاربة وظيفية لمجموعة من الأنساق، مثل: نسق الثقافة، ونسق الترجمة، ونسق الأدب المقارن... 
ومن أهم أعضائها البارزين: إيتامار إيفان زوهار، وجدعون توري، وجوزي لامبير، وشيلي ياهالوم، وزهار شافيت، وكليمون موازان، وغيرهم...وقد ارتبطت هذه النظرية، بصفة خاصة، بمدرسة تل أبيب. وقد ساهمت في تأسيس مبادئ علم الترجمة (Traducologie)، بالتركيز على تحليل الترجمة الروائية. وقد اهتم جوزي لامبير برصد مختلف الانحرافات والتشهوات التي تصيب النص المترجم أثناء انتقاله أو تحويله من النص المصدر نحو النص الهدف، أو نص الاستقبال،مع وضع لوائح وشبكات في هذا المجال.
ومن ثم، فقد انطلقت نظرية الأنساق منذ السبعينيات من القرن الماضي مع مدرسة تل أبيب، وقد أغنت فعل الترجمة والأدب المقارن والحقل الثقافي والأدب بصفة عامة. وقد درس جوزي لامبير الترجمة باعتبارها ظاهرة ثقافية متعددة الأنساق، في علاقة متداخلة مع النسق الأدبي ونسق الأدب المقارن، مع تحليل الظاهرة بطريقة ميكروبنيوية أو ماكروبنيوية بغية تحديد الأنساق المركزية والفرعية.
وأهم شيء في هذه النظرية هو ارتباطها بالسياق الثقافي، ضمن ما يسمى بسوسيولوجيا الثقافة، مادامت هذه النظرية تدرس الأنساق ضمن ثنائية المركز والمحيط. وتعنى هذه النظرية أيضا بدراسة الترجمة ضمن خريطة عالمية كونية، تتجاوز الخريطة المحلية والوطنية، وفق تعددية نسقية عابرة للحدود الضيقة.

المبحث الثاني: سلبيات نظرية الأنساق المتعددة

على الرغم من أهمية نظرية الأنساق المتعددة في دراسة الأدب بصفة خاصة، والثقافة بصفة عامة، فهي نظرية لايهمها سوى البحث عن الأنساق الجلية أو المضمرة، ضمن سياق سوسيولوجي وثقافي. بمعنى أن ما يهم النظرية هو رصد تطور الأنساق الأدبية بنية وعلاقة ووظيفة، وتفسير طريقة اشتغالها، وتصنيف الأنساق، بعد تحديدها وتسجيلها والتأشير عليها. في حين، إن الأدب بنية فنية وأسلوبية وبلاغية، يترك أثرا أو وقعا جماليا في المتلقي. ويعني هذا أن نظرية الأنساق تعتبر الأدب مجرد نسق من الأنساق الثقافية، ويتفرع هذا النسق إلى مجموعة من الأنساق الفرعية، ضمن ثنائية المركز والهامش. وتحتكم هذه الأنساق إلى مبدإ الصراع والتوتر والتنافس والهيمنة. وهذا ما يجعل هذه النظرية مقاربة سوسيولوجية وثقافية أكثر مما هي مقاربة أدبية وفنية وجمالية. وبالتالي، تنصت كثيرا إلى صراع الأنساق، ولا تهتم بجماليات هذه الأنساق بنية ودلالة وتركيبا وبلاغة وتداولا. 
أضف إلى ذلك أن هذه المقاربة إيديولوجية بامتياز، مادامت تؤمن بصراع الأنساق الهامشية مع الأنساق المركزية، وصراع الأنساق المهيمنة مع الأنساق الخاضعة. ناهيك عن كون هذه المقاربة خارجية وسياقية أكثر من اللازم، ويتم ذلك على حساب النص وشعريته ومتخيلاته الموضوعية والفنية والجمالية.
كما تقترب هذه النظرية كثيرا من النقد الثقافي الذي يبحث عن الأنساق المضمرة لاكتشافها ودراستها ووصفها وتأويلها بحثا عن الوظيفة الثقافية. ناهيك عن كون النظرية تمتح آلياتها المنهجية من سوسيولوجيا الثقافة، وذلك على حساب النص، والمبدع، والجمال، والمتلقي، والذوق...
أما فيما يخص الترجمة، فيرى توري جدعون أن مسار الترجمة تتحكم فيها معايير النص الهدف، أو نص الاستقبال، وليس معايير نص المصدر أو النص المنطلق. ومن ثم، لابد من مقاربة الترجمة ضمن مقاربة سوسيولوجية، تتعامل مع الترجمة على أساس أنها حقل ثقافي بمفهوم بورديو. ويعني هذا أن توري جدعون لايهتم بالنص المصدر، بل بالنص الهدف.
ويرى أنطوان بيرمان (Berman)، منتقدا نظرية الأنساق المتعددة، أن إيفان زوهار يهمل النص المصدر، وهو الأساس في عملية الترجمة؛ لما له من أهمية في تشكيل ثقافة نص الاستقبال. علاوة على ذلك، يضع إيفان زوهار الأدب المترجم في مرتبة ثانوية، أو في موقع هامشي مقارنة بالأدب الوطني الذي يحتل مرتبة مركزية. وأكثر من هذا لايملك الأدب المترجم أي تأثير ممكن في الأدب الوطني.
ويلاحظ كذلك غياب تصور نظري عام حول الترجمة الأدبية عند إيفان زوهار.ومن ثم، فالترجمة تعني نقل مؤلف بلغته الثقافية، وفهم أعمال الكاتب المترجم له لنقلها وتحويلها إلى لغة الهدف وثقافته. كما أن مدرسة تل أبيب لاتميز بين الأدب المترجم والترجمة الأدبية.وأكثر من هذا، فليس من الضروري أن يكون العمل المترجم متلائما مع معايير الثقافة المستقبلة، فالمترجم فرد مستقل ومبدع، فالترجمة إبداع قبل أن تكون تقليدا واحتذاء ونقلا وتحويلا. 
وخلاصة القول، فعلى الرغم من الانتقادات الموجهة إلى نظرية الأنساق المتعددة فيما يخص دراسة الأدب، واللغة، والثقافة، والترجمة، فإنها نظرية إجرائية مهمة لمقاربة الظواهر الثقافية والأدبية، وفق أنساق متعددة، ووفق منطق الصراع والتنافس والهيمنة الذي يتحدد بين المركز والهامش.

الخاتمة

وخلاصة القول، يتبين لنا، مما سلف ذكره، أن نظرية الأنساق المتعددة نظرية نقدية وأدبية وثقافية بامتياز، أفرزها سياق ما بعد الحداثة الذي يتميز بالانفتاح على الذات، والمرجع، والسياق، والثقافة، والتأويل، والآخر...
وتنطلق هذه النظرية من أن الأدب نسق ثقافي ولساني وسيميائي عام، يتفرع إلى مجموعة من الحقول والأنساق الفرعية، ضمن ما يسمى بثنائية المركز والمحيط، وفق معايير وسجلات ثقافية مقننة وغير مقننة.
ويتميز النسق بثلاث خاصيات أساسية هي: الانفتاح، والدينامية، والتهجين. ومن ثم، تتجاوز نظرية الأنساق المتعددة النطاق البنيوي السكوني الثابت نحو البنيوية الوظيفية التطورية التي تقوم على ربط البنية بالعلاقة والوظيفة.
وترتبط نظرية الأنساق المتعددة بمدرسة تل أبيب التي يمثلها بالخصوص كل من إيتيمار إيفان زوهار (Itamar Even-Zohar)، وتوري جدعون(Toury Jadaon)، وشيلي ياهالوم (Shelly Yahalom)، وزوهار شافيت (Zohar Shavit). ومن أعضائها في الخارج النمساوي ماريو فاندروسكا (Mario Wandruszka)؛ والبلجيكيان جوزي لامبير(Lambert)، وريك فان غورب ( Rik Van Gorp )؛ والكنديان: آني بريسي(Annie Brisset)، وكليمون موازان (Clément Moisan)...
وترتكز منهجية المقاربة المتعددة الأنساق على تحديد الظواهر الثقافية المركبة والمتعددة، وتصنيفها إلى أنساق مركزية وفرعية، ووصف كيفية اشتغال هذه الأنساق المتعددة، وتفسير تطورها في علاقة بسياقها الثقافي.
وعليه، تنبني نظرية الأنساق المتعددة على مجموعة من التصورات النظرية والمنهجية، مثل: تمثل المنهجية الوصفية والتفسيرية؛ والاهتمام قبل كل شيء بالترجمة الأدبية؛ والاهتمام بالنص الهدف، وليس بالنص المنطلق، أو النص المصدر؛ وتبني الرؤية النسقية والوظيفية للترجمة، بدراسة مكانة الترجمات ضمن الأدب الوطني في علاقة مع الآداب الوطنية الأخرى؛ والعمل على تأسيس نموذج ثقافي كوني؛ والاهتمام بالسجلات الثقافية والمعايير والمحددات التي تؤثر في إنتاج الترجمات واستقبالها؛والوعي بالخاصية التاريخية والتطورية للترجمات، وعلاقتها بالقوى المتحكمة فيها، مثل: السلطة والإيديولوجيا وتأثيراتهما في النصوص المترجمة.
ولا ننسى أن نقول: إن نظرية الأنساق المتعددة جاءت رد فعل على البنيوية اللسانية السوسيرية التي اعتبرت النسق ثابتا ومغلقا ومحايثا وساكنا. كما تأثرت النظرية بالشكلانيين الروس، ولاسيما يوري تينيانوف، وشلوفسكي، وإيخانباوم، ويوري لوتمان، وميخائيل باختين، ورومان جاكبسون، إضافة إلى مجموعة من البنيويين اللسانيين كتودوروف، وعلماء السرد، مثل: جيرار جنيت، وعلماء السوسيولوجيا، وخاصة بيير بورديو. 
وقد انتشرت النظرية المتعددة الأنساق في بقاع العالم، وبالضبط في إسرائيل، وكندا، وبلجيكا، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمركية، وإسبانيا، والصين، وهولندا... ومن أهم أعلامها البارزين الهولندي جيمس هولمز، والبلجيكي جوزي لامبير(José Lambert)، والبلجيكي أندري لوفوفير(André Lefevere)، والبريطانية سوزان باسنيت(Susan Bassnett)، وكليمون موزان(Clément Moisan )...
وما أحوجنا، اليوم، في وطننا العربي، إلى تمثل هذه المقاربة في دراسة الترجمة والظواهر الأدبية والثقافية واللسانية التي تتميز بتعددية الأنساق وتنوعها واختلافها وصفا وتفسيرا، بالتركيز على البنية، والعلاقة، والوظيفة، والثقافة، والنص الهدف...!

ثبت المصادروالمراجع

المصادر الإبداعية:
1- أحمد المخلوفي: جبل العلم، منشورات مكتبة أم سلمى، تطوان، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2015م.
2- محمد برادة: لعبة النسيان، دار الأمان، الرباط، المغرب، طبعة2003م.

المصادر العامة:

3- ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان، طبعة 2003م.
المراجع باللغة العربية:
4- أحمد جوهري: في تاريخ الترجمة، الجزء الأول، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة محمد الأول، وجدة، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2012م.
5- جاك هارمان: خطابات علم الاجتماع في النظرية الاجتماعية، تعريب: العياشي عنصر، دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، عمان، الأردن، الطبعة الأولى سنة 2010م.
6- جميل حمداوي: الشكلانية الروسية في الأدب والنقد والفن، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2016م.
7- حنون مبارك: دروس في السيميائيات، دار توبقال للنشر، الطبعة الأولى سنة 1987م.
8- ديفيد كارتر: النظرية الأدبية، ترجمة: د. باسل المسالمه، دار التكوين، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى سنة 2010م.
9- سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، سنة 2000م.
10- الشكلانيون الروس: نظرية المنهج الشكلي، ترجمة: إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، الرباط، الطبعة الأولى سنة 1983م.
11- الطاهر وعزيز: المناهج الفلسفية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1990م.
12- عبد الله الغذامي: النقد الثقافي،قراءة في الأنساق الثقافية العربية،المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 2000م.
13- عبد الله محمد الغذامي وعبد النبي اصطيف: نقد ثقافي أم نقد أدبي، دار الفكر، دمشق، سورية، الطبعة الأولى سنة 2004م.
14- ميخائيل باختين: شعرية دويستفسكي، ترجمة: الدكتور جميل نصيف التكريتي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 1986م.
15- يوري لوتمان: سيمياء الكون، ترجمة الدكتور عبد المجيد النوسي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2014م.
المراجـــع الأجنبية:
16- A.Berman: Pour une critique des traductions: John Donne, Paris, Gallimard, 1995
17- B.Uspenski: Poetics of composition, traduction.CL.Kahn, Poétique9, 1972.
18- Bakhtine, M. Mikahailovich, the Dialogic Imagination, Austin, University of Texas Press.1981.
19- Bourdieu (Pierre), Les Règles de l'art. Genèse et structure du champ littéraire, Paris, Seuil, 1992.
20-Clément Moisan: Qu'est-ce que l'histoire littéraire? Presses universitaires de France, 1987.
21-D. Seleskovitch et M. Lederer: Interpréter pour traduire. Paris, Didier érudition, 1984.
22-D’hulst (Lieven): L’évolution de la poésie en France (1780-1830), Leuven university Press, Belgium, 1987.
23-D’hulst (Lieven), « Polysystème », dans Vocabulaire des études francophones, Les concepts de base, sous la direction de Michel Beniamino & Lise Gauvin, Limoges, Presses universitaires de Limoges, « Francophonies », 2005.
24-Dietrich Schwanitz, Systemtheorie und Literatur, 1990 ; Selbstreferentielle Systeme, in Zeitschrift für Literaturwissenschaft und Linguistik, 1990.
25-E.D.Blodgett: A history of Literary History in Canada, University Toronto Press, Toronto Buffalo London, Canada 2004.
26-Even-Zohar (Itamar), « Polysystem Theory », Poetics Today, vol 1, no 1-2, 1979.
27-Even-Zohar (Itamar), « Polysystem Studies », numéro special de Poetics Today, vol. 11, no 1, 1990.
28-Even-Zohar (Itamar), « Factors and Dependencies in Culture: A Revised Draft for Polysystem Culture Research », Canadian Review of Comparative Literature / Revue Canadienne de Littérature Comparée, vol. 24, no 1, 1997.
29-Formalistes russes: Théorie de la littérature. Textes des Formalistes russes, trad. Tzvetan Todorov, Paris, Seuil, 1965.
30-Fridrun Rinner, « Quelques réflexions sur la critique littéraire et la théorie du système en Allemagne », Revue germanique internationale [En ligne], 8 | 1997, mis en ligne le 09 septembre 2011, consulté le 08 février 2016. URL: http://rgi.revues.org/652.
31-Hermans (Theo), Translation in Systems. Descriptive and Systemic Approaches Explained, Manchester, St Jerome, 1999.
32-JAKOBSON, R: Essais de linguistique générale, Paris, Éditions de Minuit, 1963.
33-Lambert, J: Plaidoyer pour un programme des études comparatistes: littérature comparée et théorie du polysystème, Montpellier, 1980. 
34- Lambert, J.: La littérature comme système complexe. Un modèle descriptif pour l’étude de la littérature (à paraître: Preprint, Departement Literatuurwetenschap KULeuven) 1982.
35-Lambert (José), « Itamar Even-Zohar's Polysystem Studies: An Interdisciplinary Perspective on Culture Research », Canadian Review of Comparative Literature / Revue Canadienne de Littérature Comparée, vol. 24, no 1, 1997.
36-Lederer M:La traduction aujourd’hui, Hachette, Paris, 1994.
37-Magdalena Mitura: L’ecriture Vianesque: traduction de la prose, Publications Universitaires Européennes, imprimé en Allemagne 2008.
38-Mathieu Guidère: Introduction à la traductologie, De Boeck, Bruxelles, 1édition 2008.
39-Rainier Grutman:( Polysystème) , Socius: ressources sur le littéraire et le social , http://ressources-socius.info/index.php/lexique/21-lexique/48-polysysteme.Sur le littéraire et le social.
40- R.Scholes and R.Kellog: The nature of narrative, Oxford University Press, 1966.
41-Reine Meylaerts: L’aventure Flamande de la revue Belge, langues, littératures et cultues dans l’entre deux guerres, Presses Interuniversitaires Européennes, Bruxelles, Belgique, 2004.
42-Robert (Lucie), « Polysystème » dans Le Dictionnaire du littéraire, sous la direction de Paul Aron, Denis Saint-Jacques & Alain Viala, Paris, Presses Universitaires de France, 2002.
43-Saussure (Ferdinand de), Cours de linguistique générale [1916], Tullio de Mauro (éd.), Paris, Payot, 1979.
44-Shavit, Zohar, « Translation of children’s literature as a function of its position in the literary polysystem », in Poetics Today, 2: 4, 1981.
45-Shavit, Zohar, Poetics of children’s literature, Athens, Georgia, 1986.
46-T.Kuhn: La structure des révolutions scientifiques, traduit par Laure Meyer, Flammarion, Paris, 1970.
47-G. Toury 1977. Translational Norms and Literary Translation into Hebrew, 1930-1945. Tel Aviv: The Porter Institute for Poetics and Semiotics, Tel Aviv University. 1977. 4 + 296 pp. [Hebreu].
48-Toury (Gideon), « The Nature and Role of Norms in Literary Translation », dans Literature and Translation: New Perspectives in Literary Studies, sous la direction de James S. Holmes, José Lambert et Raymond Van den Broeck, Louvain, Acco, 1978.
49-G. Toury. In Search of a Theory of Translation. Tel Aviv: The Porter Institute for Poetics and Semiotics, Tel Aviv University. 1980.
50-Toury.G: Descriptive translation Studies and beyond, Amesterdam and Philadelphia: John Benjamins 1995.
51- Tynianov (Youry), « De l’évolution littéraire » [1928], dans Théorie de la littérature. Textes des Formalistes russes, trad. Tzvetan Todorov, Paris, Seuil, 1965.
52- Tynianov (Youry) & Jakobson (Roman), « Les problèmes des études littéraires et linguistiques » [1928], dans Théorie de la littérature. Textes des Formalistes russes, trad. Tzvetan Todorov, Paris, Seuil, 1965.
53-Vermeer H.J:( Skopos and commission in Translation action), in Venuti (ed).The translation Studies Reader, London, Routledge, 2000.
54-Wandruszka (Mario), Interlinguistik. Umrisse einer neuen Sprachwissenschaft, Munich, Piper, 1971a.
55-Wandruszka (Mario), « Pour une linguistique à visage humain », Le français moderne, no 39, 1971b.
56- Wandruszka (Mario), « Le bilinguisme du traducteur », Langages, vol. 7, no 28, 1972.

المقــــالات:
57- كليمون موزان: (التاريخ الأدبي باعتباره خطابا علميا)، ترجمة:حسن الطالب، مجلة فكر ونقد، المغرب، العدد28، 15أبريل 2000م.

المحتويات

الإهداء 2
المقدمــة 3
الفصل الأول 6
التعريف بنظرية الأنساق المتعددة 6
المبحث الأول: مفهوم نظرية الأنساق المتعددة 6
المطلب الأول: تعريف النسق لغة واصطلاحا 6
المطلب الثاني: النسق بالمفهوم العلمي 8
المطلب الثالث: النسق في المفهوم الفلسفي 11
المطلب الرابع: النسق في منظور النقد الثقافي 13
المطلب الخامس: تعريف نظرية الأنساق المتعددة 18
المطلب السادس: أهداف نظرية الأنساق المتعددة 21
المبحث الثاني: مرتكزات نظرية الأنساق المتعددة 23
المبحث الثالث: المفاهيم والمصطلحات 29
الفصل الثاني: 31
سياق نظرية الأنساق المتعددة 31
المبحث الأول: مفهوم مابعد الحداثة 33
المبحث الثاني: الظروف التي نشأت فيها ما بعد الحداثة 36
المبحث الثالث: مقومات مابعد الحداثة 38
المبحث الرابع: رواد ما بعد الحداثة 42
المبحث الخامس: نظريات مابعد الحداثة 48
المبحث السادس: الإيجابيات والسلبيات 49
الفصل الثالث: 53
التصور المنهجي 53
المبحث الأول: مفهوم المقاربة النسقية المتعددة 53
المبحث الثاني: الخطوات المنهجية 55
المبحث الثالث: الإشكاليات المنهجية 60
المبحث الرابع: اقتراحات منهجية 61
الفصل الرابع 63
مرجعيات نظرية الأنساق المتعددة 63
المطلب الأول: فيكتور شلوفسكي 63
الفرع الثاني: يوري تينيانوف 66
الفرع الثالث: يوري لوتمان 71
الفرع الرابع: ميخائيل باختين 76
الفرع الخامس: بوريس توماشفسكي 80
المطلب الثاني: البنيوية اللسانية والنسق المغلق 85
المطلب الثالث: النظرية المعاصرة للأنساق المتعددة 87
الفصل الخامس: 92
حقول نظرية الأنساق المتعددة 92
المبحث الأول: مدرسة تل أبيب رائدة نظرية الأنساق المتعددة 92
المبحث الثاني: حقل الأدب 96
المبحث الثالث: حقل اللسانيات 111
المبحث الرابع: حقل الثقافة 114
المبحث الخامس: حقل الترجمة 116
المطلب الأول: مفهوم الترجمة 117
المطلب الثاني: نظريات الترجمة 119
الفصل السادس 133
تقويم نظرية الأنساق المتعددة 133
المبحث الأول: إيجابيات نظرية الأنساق المتعددة 133
المبحث الثاني: سلبيات نظرية الأنساق المتعددة 135
الخاتمة 138
ثبت المصادروالمراجع 141

جميل حمداوي

- جميل حمداوي من مواليد مدينة الناظور (المغرب). 
- حاصل على دبلوم الدراسات العليا سنة 1996م.
- حاصل على دكتوراه الدولة سنة 2001م.
- حاصل على إجازتين:الأولى في الأدب العربي، والثانية في الشريعة والقانون.
- أستاذ التعليم العالي بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالناظور.
- أستاذ الأدب العربي، ومناهج البحث التربوي، والإحصاء التربوي، وعلوم التربية، والتربية الفنية، والحضارة الأمازيغية، وديداكتيك التعليم الأولي...
-أديب ومبدع وناقد وباحث، يشتغل ضمن رؤية أكاديمية موسوعية.
- حصل على جائزة مؤسسة المثقف العربي (سيدني/أستراليا) لعام 2011م في النقد والدراسات الأدبية.
- حاصل على جائزة ناجي النعمان الأدبية سنة2014م.
- رئيس الرابطة العربية للقصة القصيرة جدا.
- رئيس المهرجان العربي للقصة القصيرة جدا.
- رئيس الهيئة العربية لنقاد القصة القصيرة جدا.
- رئيس الهيئة العربية لنقاد الكتابة الشذرية ومبدعيها.
- رئيس جمعية الجسور للبحث في الثقافة والفنون.
- رئيس مختبر المسرح الأمازيغي.
- عضو الجمعية العربية لنقاد المسرح.
-عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
- عضو اتحاد كتاب العرب.
-عضو اتحاد كتاب الإنترنت العرب.
-عضو اتحاد كتاب المغرب.
- من منظري فن القصة القصيرة جدا وفن الكتابة الشذرية.
- خبير في البيداغوجيا والثقافة الأمازيغية.
- ترجمت مقالاته إلى اللغة الفرنسية و اللغة الكردية.
- شارك في مهرجانات عربية عدة في كل من: الجزائر، وتونس، ومصر، والأردن، والسعودية، والبحرين، والعراق، والإمارات العربية المتحدة،...
- مستشار في مجموعة من الصحف والمجلات والجرائد والدوريات الوطنية والعربية.
- نشر العديد من المقالات الورقية المحكمة وغير المحكمة، وعددا كثيرا من المقالات الرقمية. وله (124) كتاب ورقي، وأكثر من تسعين كتابا رقميا منشورا.
- ومن أهم كتبه: فقه النوازل، ومفهوم الحقيقة في الفكر الإسلامي، ومحطات العمل الديدكتيكي، وتدبير الحياة المدرسية، وبيداغوجيا الأخطاء، ونحو تقويم تربوي جديد، والشذرات بين النظرية والتطبيق، والقصة القصيرة جدا بين التنظير والتطبيق، والرواية التاريخية، تصورات تربوية جديدة، والإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة، ومجزءات التكوين، ومن سيميوطيقا الذات إلى سيميوطيقا التوتر، والتربية الفنية، ومدخل إلى الأدب السعودي، والإحصاء التربوي، ونظريات النقد الأدبي في مرحلة مابعد الحداثة، ومقومات القصة القصيرة جدا عند جمال الدين الخضيري، وأنواع الممثل في التيارات المسرحية الغربية والعربية، وفي نظرية الرواية: مقاربات جديدة، وأنطولوجيا القصة القصيرة جدا بالمغرب، والقصيدة الكونكريتية، ومن أجل تقنية جديدة لنقد القصة القصيرة جدا، والسيميولوجيا بين النظرية والتطبيق، والإخراج المسرحي، ومدخل إلى السينوغرافيا المسرحية، والمسرح الأمازيغي، ومسرح الشباب بالمغرب، والمدخل إلى الإخراج المسرحي، ومسرح الطفل بين التأليف والإخراج، ومسرح الأطفال بالمغرب، ونصوص مسرحية، ومدخل إلى السينما المغربية، ومناهج النقد العربي، والجديد في التربية والتعليم، وببليوغرافيا أدب الأطفال بالمغرب، ومدخل إلى الشعر الإسلامي، والمدارس العتيقة بالمغرب، وأدب الأطفال بالمغرب، والقصة القصيرة جدا بالمغرب،والقصة القصيرة جدا عند السعودي علي حسن البطران، وأعلام الثقافة الأمازيغية...

- عنوان الباحث: جميل حمداوي، صندوق البريد1799، الناظور62000، المغرب.
- الهاتف النقال:0672354338
- الهاتف المنزلي:0536333488
- الإيميل:Hamdaouidocteur@gmail.com
Jamilhamdaoui@yahoo.fr

إن نظرية الأنساق المتعددة نظرية نقدية وأدبية وثقافية بامتياز، أفرزها سياق ما بعد الحداثة الذي يتميز بالانفتاح على الذات، والمرجع، والسياق، والثقافة، والتأويل، والآخر...
وتنطلق هذه النظرية من أن الأدب نسق ثقافي ولساني وسيميائي عام، يتفرع إلى مجموعة من الحقول والأنساق الفرعية، ضمن ما يسمى بثنائية المركز والمحيط، وفق معايير وسجلات ثقافية مقننة وغير مقننة.
ويتميز النسق بثلاث خاصيات أساسية هي: الانفتاح، والدينامية، والتهجين. ومن ثم، تتجاوز نظرية الأنساق المتعددة النطاق البنيوي السكوني الثابت نحو البنيوية الوظيفية التطورية التي تقوم على ربط البنية بالعلاقة والوظيفة. 

الكتاب: نحو نظرية أدبية ونقدية جديدة (نظرية الأنساق المتعددة) 
المؤلف: الدكتور جميل حمداوي
الطبعة الأولى سنة 206م
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -